حاتم سلامة يكتب: الموهبة وحدها لا تكفي
اسمح لي هنا بشيء من النرجسية أطرحه عليك قبل الحديث معك في هذا الموضوع المهم.
هل تعلم أنني أتمتع بخبرة صحفية قوية، فالصحافة صارت تجري في دمي وعروقي.
بل هل تصدقني لو قلت لك: إن لدي القدرة أن أدير تحرير أي صحيفة كبرى كالأهرام مثلا أو أخبار اليوم؟
ربما لا تصدق.. لكنني أعرف من نفسي هذه القدرة والمكنة، ولو وجد اليوم الذي يتاح لي فيه ذلك، سترى أنني لا أضخم من أمر نفسي أبدا.
ربما يدور في ذهنك الآن تساؤل ماكر أشعر به، وهو لماذا إذن وأنا أمدح نفسي إلى هذا الحد لم أصل إلى مبتغاي من الموقع الوظيفي الذي أطمح إليه ويليق بي وبملكاتي كما أزعم.
وهنا لن أجيبك، فجيد جدا أنك وصلت إلى هذا التساؤل، وعليك أن تقرأ هذا المقال الذي أحاور فيه كاتبا يبتئس لحاله ويئن لإهماله، حتى تعرف الرد.
قلت يومًا للكاتب المذكور:
– لا تبتئس فأنا واحد ممن يؤمنون بموهبتك ككاتب، وما لقلمك من تفرد وقدرة.. لكن دعني أطرح عليك سؤالا وهو:
-هل يكفي أن تكون موهوبًا حتى يؤمن بك الناس ويعرفوك، وتأتيك الشهرة مهرولة؟
– أعتقد يا عزيزي أن الموهبة اليوم لم تعد شيئا نادرا، وأن كثيرين من أصدقائنا نراهم يكتبون فيبدعون ويتميزون، إن الموهبة وحدها لا تكفي.
– إذن ما هو الحل، وما الأداة التي أدعم بها موهبتي حتى تأخذ مكانها اللائق بها أو على الأقل تتميز عن بقية المواهب الأخرى؟
– أما هنا وقد سألت.. فدعني أخبرك بكل وضوح وصراحة: إن كثيرا من المبدعين في حاجة إلى ضربة حظ تمكن لهم، وفرصة تواتيهم فترتفع بهم، ويكون هذا الحظ على شكل واسطة أو معرفة أو تبادل مصالح أو أي صورة من صورها يمكن أن تخدمك وتعزز من موهبتك، المهم أن توجد.
الموهبة يمكن أن تتوفر كثيرًا، لكن الحظ لا يتوفر للكثيرين.
وأرى كذلك من المواهب العديدة التي تموت، لأنها لم تجد لها فرصة أو حظا يسعفها.
– دعني هنا أحكي لك قصة رجل موهوب قلب الدنيا وأثر في عقل العالم ووجدان الشعوب.. لقد كان موهوبا مبدعا، لكن أحدا لم يكن يؤمن به، أو يرى له أي تميز.!
كان يطوف بقصصه على الصحف والمجلات فكانوا يصدونه ويهملونه ويرفضون نشر قصصه ويتهمونه بالعبث وقلة الدراية وربما انعدام الموهبة ومنهم من قال له: إنك تضيع وقتك فلا جاذبية لهذا الذي تكتبه.
وبالمناسبة لقد كان طبيبا ولم ينجح في ميدان الطب، ولم يستطع الطب أن يمنحه الاستقرار المعيشي ويلبي احتياجاته، بل كان ينتظر المرضى ولكنهم لا يأتون، وهنا وفي وقت الفراغ، كان يكتب روايات بوليسية بطلها شخص واحد اسمه (شرلوك هولمز)
هل علمت الآن من هو البطل الذي أحكي لك قصة كفاحه؟
إنه الكاتب الانجليزي (آرثر كونان دويل) مخترع شخصية المحقق البوليسي الشهير شرلوك هولمز.. والذي ظل لمدة خمسة شهور كاملة بعد أن ألف أولى قصصه ظل يطوف على الصحف والمجلات عساه أن يجد من ينشرها له فلم يجد!!
ولكنه لم ييأس ولم يدمره الاحباط، كان مؤمنًا بنفسه وموهبته إلى حد كبير.
حاول أن يفكر قليلا، ورأى أن يتنازل عن مراسلة الجرائد الكبرى والصحف الشهيرة، ويراسل صحفا ناشئة.
وبالفعل راسل مجلة (ستراند)
وهنا كان الحظ.
رسائل كثيرة لكتاب يراسلون المجلة يتفحصها رئيس التحرير الأدبي للمجلة واسمه (جرينهو سميث) الذي وصف في مذكراته ما حدث مع هذا الميلاد الرهيب في ربيع عام 1891م فقال:
لمحت في بريدي قصتين قصيرتين كتبت كل منهما على ورقتين بخط أنيق، واكتشفت فجأة أن أمامي أعظم كاتب للقصة البوليسية منذ عهد (ادجار آلان بو) فاندفعت إلى مكتب صاحب المجلة، وألقيت أمامه بالقصتين وأنا في حالة سعادة بالغة، فإن كتاب القصة الجدية كانوا نادرين جدا في تلك الأيام، وكانت تغطي مكتبي مقالات وقصص سيئة يستحيل نشرها، فاعتبرت القصتين قبسًا من أمل، وهبة من السماء لرئيس تحرير يائس متعب، يبحث عن مواد جديدة صالحة للنشر.
ولم يكن لدي شك في أنني أرى مولد كاتب قصة جديد وموهوب.
ولم يكن لدي شك أيضا في أن عقدة القصص جديدة وأصيلة، وأن أسلوب الكاتب واضح فهو يجيد فن رواية القصة.
نشرت قصص دويل ولقيت إقبالا كبيرا، وفي خلال ستة شهور ارتفع توزيع المجلة بقوة وأصبح لاسم دويل شعبية كبيرة تفوق كل الكتاب.
بل بدأت المجلة تكتسح كل المجلات المنافسة بسبب قصص دويل وشخصية شرلوك هولمز.
وهنا جاءت الفرصة التي عضدت الموهبة واندمجت معها فحققت الطموح المنشود.
كان يمكن لرئيس التحرير هذا أن يعتبر القصتين عبثا كما كان رأي غيره من الناشرين والصحفيين، لكن احتياجه الشديد لمادة جديدة ودسمة، وافتقاره لمواد صالحة للنشر، جعله يتأمل طبيعة القصص المرسلة إليه ويكتشف هذا الكشف الهائل، لكاتب هو مجرد طبيب مفلس فشل في عمله كطبيب.
ماذا حدث في انجلترا والعالم كله؟
تم تأليف كتب كثيرة عن هولمز وأنتجت عشرات الأفلام عنه شخصيته.
بل كان الناس يرتدون ملابس هولمز ويسيرون بها في الشوارع، والشركات السياحية تنظم رحلات سياحية لشارع بيكر الذي كان يقيم فيه هولمز.
وبعض القراء لروايات هولمز، بدؤوا يكتبون أبحاثا عن الموسيقى وقاعات الرقص التي كان يغشاها هولمز.
وهناك دراسات عن المسرح في عهد شرلوك هولمز باعتبار أنه كان في شبابه ممثلا مسرحيا.
بل صدرت مقالات عن صديقه واطسون.
وأحد الشباب ذهب إلى جامعتي اكسفورد وكمبردج ليراجع أسماء الخريجين خلال قرون ليعرف إلى أي جامعة ينتسب إليها شرلوك هولمز.!!
لقد أثرت الشخصية في المجتمع الانجليزي والعالم كله، وانتشرت روايات دويل حتى أنه حينما زار مصر عام 1896م ليعالج صدره بجفاف الجو واستقل الباخرة إلى أسوان، دهش حينما علم أن رواياته ترجمت إلى العربية وأها توزع على رجال الشرطة ليعرفوا منها طرق مكافحة الجريمة.
أرأيت إنها الصدفة والحظ هما من أفسحا الطريق لهذا العملاق الذي نال شهرة طاغية، ولولا هذا الحظ، لظلت موهبته كسيحة لا قوام لها، وربما ماتت وانتهت ولما علم أحد منا أي شيء عن شرلوك هولمز.
الغريب أن هذا الرجل الدكتور دويل غير معروف بالشكل الكبير الذي تعرف به مثلا أجاثا كريستي كمؤلفة للقصص البوليسية، لكن من جهة أخرى فإن شخصيته الروائية أكثر شهرة من روايات أجاثا، فشرلوك نفسه نال شهرة أكثر من صانعة.
وإلى هناك هل تراني أجبتك عن حالي أم لا.
إنني لم أقابل حتى اليوم تلك الفرصة التي تؤازر قدراتي وتعضد موهبتي، ولأجل ذلك أنت تقرأ لي اليوم على صفحات الفيس بوك، ولا تقرأ لي في الأهرام أو الجمهورية أو أخبار اليوم.
لكن.. لا يهمني ذلك
فالمهم عندي أنك تقرأ لي في أي مكان وموطن، وهذا يكفيني ويرضيني.
ولتضع في فهمك قبل الرحيل، أنني من المؤمنين بالأقدار والأرزاق، ولا أندب حظي على ما فاتني ، فكل ما قدره الله خير، وما الحظ والفرصة و-البخت- إلا كلها مسميات تجري تحت طائلة القدر ونفوذه، وهي أرزاق الله يهبها من يشاء، وبعضهم يرى الأمر فساد أمم وشعوب ومجتمعات، ولو كانت صالحة لأخذ كل مجتهد مكاه وموهوب قدره.