الأحد مايو 19, 2024
مقالات

حاتم سلامة يكتب: تقدير لا تقديس

إن الإعجاب الذي يقود إلى التقديس جهالة، والانبهار الذي يتبعه اعتقاد بعصمة من تنبهر به قصور في الفهم وضيق في الوعي.

بل أصدق حينما أقول إن أصحاب هذا السلوك مصابون بعمى العقل والبصيرة، فلا يوجد إنسان في الدنيا معصوم إلا نبي مرسل، والأشياع الجهلاء هم من يصنعون هذه الأزمة الفكرية التي تنعكس بفسادها على المجتمع والحياة، حينما ضربت العقل في مداركه.

يمكن لي أن أحترم مواهب إنسان وأجل قدراته وأقدر إمكاناته، وأرى له استحقاقا يجعل منه إنسانا متفردا بعناصر الامتياز عمن هو دونه، فيتولد الاعجاب والتقدير والاستحسان، الذي يؤوله البعض بأنه تقديس.

وعندي أن العماية عن إدراك مواهب المبدعين لا تقل خطرا عن عماية المتعصبين، فكلاهما يقود للانحراف في الفهم والسوء في التقويم.

وهكذا نترنح كثيرا بين جاهل وحاقد يؤذنان بضياع الحق والحقيقة.

يزعم الناس حينما ندافع عن الأستاذ العقاد ونروي عنه الكثير والكثير، ونرد عنه شبهات المدعين، أننا من المتعصبين له على طول الخط، وأننا لا نرى له في مسيرة حياته خطأ فعله، وما هكذا كنا ولن نكون، ففي كثير من المواطن أعلنا فيها خطأ الأستاذ، ولمنا عليه موقفه، ولم تعجبنا وجهة نظره، لكننا والفرق بيننا وبين غيرنا، أننا لسنا ممن يهيل التراب على عظمته وعبقريته لخطأ أو هِنة أو زلة نسبت إليه.

فرؤيتنا إليه تسع كونه إنسانا تنطبق عليه معايير البشر، وفي ذات الوقت تقدر عبقريته الفذة ولا تنكرها فيه.. ولعمري فهذه هي العدالة المرجوة، والفهم الراجح، الذي أنتجته ثقافة رصينة لا تعرف إلا تقديس الإنصاف.

وما أروع الأستاذ معتز شكري حينما وصف هذا المشهد بقوله: «نحن إذ نقدره ونحتفي به لا نرفعه فوق حدوده كبشر خطاء، ولكننا نحرص على أن نرى فيه تجليات خالقه عليه ومواهبه له في تكوينه له ونفيد منها ما وسعنا الجهد، فكأننا تسبح فيه بمواهب مولاه بأكثر مما نحمد له هو خصالاً ومزايا، في الوقت ذاته الذي لا نبخسه حقه في تنمية تلك الخصال والمزايا».

أقابل بعضهم فيقول لي: أنا لا أحب العقاد!

لماذا لا تحبه؟

لأنه قال كذا او فعل كذا!

وإذا نظرت إلى ما قال أو سمع، وجدته أحيانا نتاج فهم خاطئ أو تقول ظالم.

ولكن أين أنت يا مبغض العقاد من هذا الرصيد الهائل العظيم من بلائه الفكري والعلمي والإبداعي، الذي أحسن فيه على أسمى ما يكون عقل العبقري وحس اللوذعي؟

إن المثقف الحقيقي هو الذي يتجرد من أثر القلب على العقل، أو من سلطان العاطفة على ميزان العدل، بل إنه الخلق العظيم الذي يتجاوز الثقافة إلى السلوك الشخصي والقيمي.

ابحث في أي إنسان تحمل له بغضا أو كرها او تضيق به ذاتك، عن أي بصيص من نور أو فضل أو استحسان، فلن تعدم ذلك أبدا، أما إذا اسودت عليك الصورة وتلبد المشهد بالغيوم، فاعلم وقتها أنك تفقد الصلاحية في الحكم والتنظير، وأن ضميرك مكبل بأغلال أفسدت بوصلته، فلا تعرف الاتجاه الصحيح.

إنها أخلاق المؤمنين الذين طالبهم المولى سبحانه بقوله: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا»

وقيل: لا تمنعك مساوئ رجل من ذكر محاسنه.

وتجد حالة هؤلاء المبغضين متنافرة غير متحده في الهوى والمنطلق، فمنهم من يكره فكر العقاد، ومنهم من يخاصمه لأنه يشايع نظيرا وندا له، وعجبا نرى حينما يفضلون معشوقهم على العقاد، ولا يلقون بالا بشهادة هذا المعشوق في العقاد، حينما تصفو الأجواء، وترتاح الضمائر، ويلقي كل منهم سلاح المعركة، فإذا الحق قريب إلى لسانه وفؤاده.

إن لكل منا مواهب وسمات وصفات محمودة، وفي ذات الوقت لديه صفات مذمومة، فلا يجب في معرض التقويم له أن نتغافل عن إيحابياتنا ونتغنى بالسلبيات.

انظر هنا لشهادة المازني وهو صديق العقاد والمناصر له، وحليفه في مدرسة الديوان ومعاركها العنيفة، هاهو يقول كلاما لا يقدس العقاد فيه ويثبت فيه نقدا، وفي ذات الوقت لا ينفي قيمته فيقول:

«للعقاد شخصية لا يسع من يتصل بها إلا أن يُعنى بها ويحسب لها حسابها، وقد تكرهه أو يضيق به صدرك أو تحبه وتصفو له بالود الصادق والإخلاص الثابت. ولكن لا يسعك أن تغفله أو تتجاهله أو تغضي عنه أو تستخف به لأن له من قوة الشخصية ما يجعل ذلك مستحيلا.»

قلت سابقا وأنا أكتب عن إنسانية العميد طه حسين، أنني كثير الاعتراض عليه، كثير الرفض لمواقفه، لكنني ابدا لم أغفل ما حمل بين ضلوعه من إنسانية عالية كان فيها آية من آيات الرفق والرحمة.

لقد ملك العقاد مواهب عظيمة وعقلا كبيرا ومنطقا دقيقا وأدبا رفيعا واطلاعا وفيرا وكانت له عصامية مدهشة وجلد مذهل وإرادة صلبة سمت به إلى مراتب العباقرة.

ونحن أمام ما تفرد به إبداعه وتفتقت عنه مواهبه، لا يمكن أن نتغافل شعور النفس في انبهارها به… ذلك الانبهار الذي لا يعني التقديس أو أنه معصوم لا يخطئ، بقدر ما يعني الاعجاب والتقدير بروعة هذا العقل المذهل.

Please follow and like us:
حاتم سلامة
كاتب وصحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب