مقالات

حاتم سلامة يكتب: جريمة الحديث عن النساء

كان الحديث عن النساء المسلمات في وقت من الأوقات التي مرت بها مصر جريمة من الجرائم الكبرى التي يمكن أن تودي بصاحبها وراء الشمس.

لكن المحزن في الأمر أن يكون حولك من الناس من يحقد عليك ويتربص بك الدوائر ليفسر كل عمل لك تفسيرًا يعود عليك بالأذية والضرر، حتى إذا رأوك تصلي أو تحرص على قراءة القرآن وارتياد المساجد.

 فإذا كان هناك من يضمر لك بغضًا ما أسهل أن يغرر بك ويضرك حينما قدمت له المادة الجاهزة التي يكتب بها بلاغًا سحيقًا يمكن أن يدمرك.

والمرء يتعجب من طبيعة هؤلاء الناس، أين ذهبت ضمائرهم وإيمانهم وإنسانيتهم؟

ألا يخشون الله، ألا يخافون عقابه، ألا يتقونه وهم يُقدمون على أذية الناس؟

كان أستاذنا البيومي -رحمه الله- واحدًا ممن تعرضوا لنيران هذا الحقد المخيف، ورغم ما عُرف عنه من سماحته ومسالمته ومجاملته إلا أن الحقد طاله وكاد أن يصطلي بنيرانه لولا نبل بعض الناس حينما يسوقهم الله كملائكة ينصرون عباده ويغيثونهم من خطر محدق وبلاء يحلق.

كان -رحمه الله- قد تعرض في كل مرحلة من حياته إلى مواقف متعنتة عصيبة أو محرجة وصدامية كان يمكن لها أن تكون ذا أثر غائر في إعاقة مستقبله وعزيمته، في مرحلة المعهد والكلية، حتى بعد تخرجه وعمله لم يسلم من هذه المواقف الخطيرة التي أفلت منها بفضل الله.

 فكان مما تعرض له وقرأته عنه، وهو مدرس في معهد المعلمات بالإسكندرية بعد يوليو 1952 لم يكن له أي نشاط سياسي أو حزبي، وليس محسوبًا أو مسجلًا على جماعة من الجماعات الدينية، وكانت فسحة الغذاء في اليوم المدرسي بالمعهد طويلة، وكان زملاؤه المدرسون يجهزون خطبًا تمتد إلى الساعة ونصف الساعة لتشغل فترة الفسحة، يلقون فيها كلمات وطنية، وكان قد تكرر حديثهم عن ثورة الجيش، ومحو الإقطاع وإلغاء الألقاب، وحرب القناة.

 رأى أن الطالبات ينسحبن ولا يسمعن، فإن الحديث المكرر صباحًا ومساءً وفي الظهيرة، قد أدخل السأم على نفوسهن، فراح البيومي يحاضر في يومه الأسبوعي عن الشهيرات من نساء الإسلام، كعائشة وخديجة والخيزران وزبيدة والخنساء، فوجد إقبالًا منقطع النظير.

 وكأن أحد الزملاء غاظه هذا التوفيق؛ فكتب إلى المباحث خطابًا مجهول التوقيع يقول إنه معروف بميوله الخاصة للإخوان المسلمين؛ لذلك لم يتحدث عن أعمال الثورة المجيدة.

 ترك الخطاب أثره فإذا بزائر رسمي يأتي إلى مكتب عميدة معهد المعلمات ليسألها عن ميوله الإخوانية، فتشجعت العميدة شجاعة باسلة،

وقالت:

لم أعرف عنه ولم أسمع عنه إلا كل ولاء وتقدير للثورة، ولو شممت منه ما يدل على انحرافه لكنت أول مطالبة باستبعاده!

قال الزائر:

ولكنه لم يتحدث إلا عن النساء المسلمات مثل عائشة وخديجة، ولم يكن كبقية الزملاء، فابتسمت وقالت في وداعة:

الطالبات شكون لي أن الحديث متكرر يسمعنه في الإذاعة المدرسية والإذاعة العامة، ويقرأنه في الجرائد اليومية، وهن لا يستفدن منه.

 وأمام هذه الشكوى طلبت من الأستاذ أن يختار شخصيات نسائية من التاريخ لتجبر الطالبات على الاستماع ولا يتهربن وقام بتوجيهي بالحديث عن هؤلاء فصادف حسن القبول، فإذا أردتم أن أمنعه فلكم ما تشاؤون فقد تحدث بأمري وتوجيهي.

 قال الزائر: حديثك معقول..

وهنا قالت:

 هل هناك صلة بين عائشة والخنساء، والإخوان المسلمين؟ إنني لا أجد صلة إطلاقًا فخرج الزائر دون أن يستجوبه، وعلم البيومي بما كان من وكيلة الدار، فهرع إلى السيدة الفاضلة يشكرها،

فقالت:

لقد أطفأت النار يا رجب، وأعفيتك من المحاضرات نهائيًا، حضر الطالبات أم لم يحضرن.

لفت نظري في هذا الأمر روعة المرأة وبراعتها حينما تتولى القيادة، والتي كانت على مستوى الموقف أعظم وأسمى من كثير من الرجال يمكن أن يكونوا بلاء على من يديرونهم.

 كانت المرأة شجاعة مبادرة سارعت لنفي التهمة وتبرير الموقف، لكي لا يطال مدرسها أي أذى، وهناك مدراء يعشقون أذية من يلونهم وتحت أيديهم من الموظفين، لكنه موقف شاء التاريخ أن يسجله لهذه السيدة، وتكون صاحبة جميل على أستاذنا وشيخنا البيومي -رحمه الله-.

حاتم سلامة
كاتب وصحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *