أقلام حرة

حاتم سلامة يكتب: حوار مع أستاذي

حدثني أستاذي حوارا ساخنا عن الأستاذ العقاد، ورغم أني أقر له بين الحين والحين أنني لا أقدسه ولا أنزهه عن الخطأ، إلا أن أستاذي يتريب من حفاوتي به.

ولقد أدركت بعد حوار طويل معه مناط الاختلاف، فأستاذي يرى أن العقاد فرد كأي فرد ومفكر كأي مفكر، كانت له جهوده المحمودة المشكورة، أما أن نحيطه بهذه الحفاوة وهذا التمجيد، فهو شطط في الرأي.

والحق أن هذا ظن تبينت منه أن أستاذي بعيد عن تراث العقاد، ولم تواته الفرصة الحقيقية ليعرف من هو هذا العقاد وعلى أي شيء لقبوه بالعملاق.

وأستاذي على خلاف عالم آخر رأيته يوما يقول لي: إنني حينما أقرأ للعقاد أشعر بضآلة نفسي وأنني فعلا قزم أمام عملاق كبير.

إن أستاذي من أنصار الاعتدال وذم الشطط العاطفي، فهو من أهل الانصاف والانضباط، ولكنني ومن حواري معه، تبين لي أمر هام لأول مرة أقف عليه في حياتي وهو أن مبدأ الاعتدال أحيانا يتحول لمبدأ للجور والتجني والتخذيل حينما يجبرنا أن نضع أو نساوي عقلا كالعقاد مع غيره من العقول.

وفي غمرة الحوار أحب أستاذي أن يسأل صديقا له من أساتذة الأزهر ومن علماء الدعوة والثقافة الإسلامية عن رأيه في العقاد؟

وذلك حتى ينقل ما يقوله لي ويستشهد به ردًا علي في تعظيمي للعقاد.

فبماذا رد الأستاذ الجامعي العالم الذي أحبه وأقدره كذلك؟

قال عالمنا ما يلي:

1-هناك رجل اسمه (م-ج-ق) ينتقد العقاد، ويعد المرجع الأعظم في توضيح معنى وماهية العقاد ويكشف حقيقته ونمط أفكاره.

2- العقاد قائل بتطور العقيدة وخالف منطوق القرآن الكريم وقد رد عليه سيد قطب في تفسير سورة هود.

3- العقاد كان شخصية متقلبة فمرة يسير مع الإخوان ومرة مع الوفد ومرة مع السعديين.

وحينما نقل إلي أستاذي ومعلمي هذا الكلام، أُسقط في يدي وتعجبت وأسفت، وأبديت هذا الأسف والهلع لأستاذي، فرد علي هادئا: لماذا تأسف والأمر بسيط لأن القضية تشغلك أنت لا تشغل غيرك.

قلت له: بل إن أسفي عظيم إذ كيف لأستاذ في الثقافة أن يكون هذا رده وانطباعه على أعظم مفكر إسلامي عرفته مصر في تاريخها الحديث، ومنشأ أسفي أن الفكر الإسلامي وحماية الإسلام من خصومه، هو مهنة ووظيفة أستاذنا الأزهري الذي أجله كذلك وأحترمه.

بل أنا في قمة الأسى من هذه الشبهات التي ألقيت على الأستاذ العقاد دن تبين وتدقيق.

وليسمح لي أستاذي أن أناقشه في آراء صديقه العالم الداعية.

أما الشبهة الأولى، فإن ما كتبه ذلك الرجل الذي هاجم للعقاد في كتبه، تعد أضحوكة من أضاحيك الثقافة وهزلياتها في هذا الزمن، فقد تابعت كل ما كتب.. فإذا به يجتزئ الجمل ويبتر النصوص ويحمل العقاد مالم يقله، ورأيت أنا وأخي أحمد الشريف أن نتتبع شبهاته عن الأستاذ العقاد، فإذا بتأمل آراء الرجل فيما طرحه عن العقاد وانتقاده له، يثير العجب الكبير، إذ كيف له أن يفهم هذا الفهم الذي لم يقله العقاد ولم يقصد إليه أبدًا مع وضوح القصد والمفهوم.

كنا متحمسين في البدء على الردود وإظهار الحق، لكننا أدركنا مع مقالين أو ثلاثة أننا نرد على عبث وتهريج وكلام منحرف الفهم كسيح التعبير لا يرقى أن يكون ردًا أو شبهة وخلافا يقدر، بل لا يرقى صاحبه أن ننزله في منزلة الند للعقاد والمعقب عليه، إننا بذلك نهين الأستاذ كثيرا.

ولكن المصاب الكبير أن يعتد بالكلام عالم أزهري ورجل من رجالات الدعوة وهو لا يعرف صاحب الشبهات ولا عقله ولا منهجه في التحرش بأعظم مفكري الإسلام.

قد يكون الأمر لا يعني أستاذنا الأزهري، لكن الأمر يعني الإسلام، لأن العقاد شئنا أم أبينا رمز من رموز الإسلام قبل أن يكون رمزا من رموز الأدب.

أما الثانية ومسألة تطور العقيدة فقد رجعت إلى كتاب (الله) للعقاد لأنظر ما هذه الشبهة التي يلصقونها بالأستاذ العقاد.. ومع بغضي للكتب الفلسفية أو الأسفار العقادية التي تحتاج قدرًا من التركيز والتدقيق العقلي، إلا أنني تحاملت على نفسي وقرأت، فإذا الأستاذ يتحدث عن مفهوم التطور العقدي عند علماء الأديان، لا عنده هو، وماهية اعتقادهم بتعدد الألوهية عند الجماعات البدائية الأولى.. كلامهم هم لا كلامه هو، ثم إذا بي أرى عجبا في ردود من ردوا عليه، أو بمعنى أدق ردوا على رأيه في نقله لكلام علماء الأديان.

فإذا بهم يقولون: إن أول ما عرفت البشرية هو التوحيد لا التعدد، فكلام العقاد يخالف القرآن لأن القرآن تحدث عن نزول آدم إلى الأرض كأول الموحدين.. وأنه يقول بأن العقيدة والدين يرتقي في حياة الإنسان كما ترتقي العلوم والصناعات، فهو إذن حسب فهمهم للنصوص أن العقيدة والدين صنع بشري.. وما هكذا تكلم الرجل أو أشار أو فهم… الرجل الذي دافع عن الإسلام والنبي وأظهر فضل الصحابة وعظماء الإسلام والفلسفة القرآنية.. كيف له أن يقول مثل هذا الكلام؟ لا يستقيم الحال أبدا مع هذا الفهم الأعوج للقارئين.

وأنا أتعجب من الفهم السقيم، ما هذا الرد الذي ليس في موقعه ولا مكانه، فالرجل لم يقل إلا القبائل البدائية، فهل فهم القارئون والمخطئون معنى كلمة القبائل قبل ردهم بنصوص آدم عليه السلام؟!

أما الثالثة وهي أن العقاد متقلب، فقد قرأت في سير الأولين والآخرين فلم أر عظيما في الفكر متمسكا بالمبادئ كما كان تمسك العقاد، ولعمري لو كانت الدنيا كلها يمكن لها أن تتريب وتتقلب وتتخلى عن مبادئها، فإنها يمكن لها ذلك إلا العقاد الذي عرف عنه أنه أشد الناس تمسكا وعنادا، كما أنه لم يرد عنه أبدا أنه سار مع الإخوان المسلمين في فلك واحد، وأما خصومته مع الوفد فمعلومة مواقفها، ومعروف لماذا اختلف مع النحاس ومكرم عبيد ومشهودة كيف كانت هذه الحرب بينهما.

وهنا أقول فرق كبير بين رجل يكون اليوم معي ثم يصبح علي وضدي من مبعث الهوى والمزاج، وهو هنا فعلا يصدق فيه أن يكون متقلبا متعدد الهوى، أما أيكون المختلف معي قد اختلف نتيجة رأي أو موقف أو احتدام أو توجه أو تصرف لم يعجبه، فهنا تختلف المسألة ويختلف الكلام.

إنه هنا سار في طريق مغاير لسبب معلوم محترم مقدر، وكان هجومه راجع لهذا السبب الذي يحترم ويقدر.

ونحن قد كتبنا كثيرا عن الخلافات بين النحاس العقاد، فلما نهره النحاس لأنه يهاجم وزارة توفيق نسيم التي يواليها الوفد، وقال قولته العنيفة التي جرح بها كبرياء العقاد.. رد عليه الأستاذ وقتها بعد أن أخرج قلمه الرصاص من جيبه: لن تتم برية هذا القلم حتى يكون أجل هذه الوزارة قد انتهى.

لقد نسي النحاس أن العقاد زعيما من الزعماء، بل أكبر في كثير من حالاته من الزعماء، وعقوبة لهذا النسيان تحول العملاق عن الوفد فانكشفت سوأته وتعرى وصار في الحياة السياسية وقد فقد أمنع دروعه التي كان يصد بها الخصوم وهو العقاد.

ومقولة: إن العقاد متقلب، هي أكثر مقولة شده لها روعي في هذا الحوار، لأنك يمكن لك أن توجه أي جملة أو مقولة تحمل أي اتهام آخر للأستاذ العقاد، إلا اتهامه بأنه متقلب.

إن من سمات الأستاذ العقاد أحيانا العناد والتصلب في الرأي، وهذه سمة يكون صاحبها من أمنع الناس على صفة التقلب.

كما أن هذه المقولة لا تليق بحالتها مع أعظم عقل عرفته الساحة الثقافية في هذا الزمان ومازال، فالمترددون أصحاب عقول واهية مذبذبة متحيرة تائهة، والعقاد كان أعجوبة العلم في الحجاج والوصول للحقائق وتحري البرهان، فكيف يكون مثل هذا من أهل التقلب بين المذاهب والآراء.

بقيت الإشارة أن نقول وبتوضيح.. أن اهتمامنا بالعقاد وتراثه، هو من باب اهتمامنا بالإسلام، وأن حبنا للعقاد نابع من حبه للإسلام ودفاعه عنه، أما ما ينبعث إلى بعض الظنون أننا نتحدث عن الرجل بروح التقديس والتأليه وأنه العقل المعصوم من الخطأ، فهذا وهم لا أعرف من أين أتى، فوالله لقد كنت من أشد من انتقد العقاد في كثير من الأمور وأقول بملء الفم: أخطأ العقاد، وأنت إذا سألتني عن النقاط العلمية التي أخطأ فيها العقاد أجبتك بها في بعض مع وجدته في كتبه ومعاركه، وهو امر يرد أي وهم وظن بتهمة تقديس البشر.

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى