مقالات

حاتم سلامة يكتب: ديورانت.. والنبي الأكرم ﷺ

شيء محزن أن نرى بعض المتدينين المهتمين بالثقافة والمعرفة وهو يزكي كتابًا يطعن في دينه ويشوه صورة نبيه ورسالته، يكتب عن الكتاب وصاحبه وينصح القراء باقتنائه وقراءته ويؤكد على فائدته الأدبية والمعرفية والتاريخية، بل يختم نصحه بأنه كتاب منصف للإسلام والمسلمين، يتناول تاريخهم بنزاهة مفرطة.. والله يعلم أنه مكر صهيوني وفخ صليبي..

رأيت هذا بأم عيني فكدت أبكي فزعا من هذا الجهل القاتل.

كنت في قمة الانزعاج حينما رأيت هذا المنشور يظهر أمامي وهو يحرض الناشئة إلى المسارعة في اقتناء هذا الكتاب الكارثي الذي ألفه رجل من أخبث من أمسك بالقلم من كتاب الغرب.. والكتاب هو قصة الحضارة لويل ديورانت.

والحق أن الهوس بهذا الكتاب قد سرى واستفحل وتوهج بين نخب المثقفين، كل يسارع لاقتنائه، ومن ناله وحصل عليه يشعر في قرارة نفسه أنه جمع صيدا ثمينا وكنزا لا يقدر بثمن، ويعده البعض أعظم ما كتبته أيدي البشر، وليكن كذلك أو هو كذلك فيما كتب من مجالات وفصول وأبواب لكننا هنا لا يعنينا إلا الجزء الذي خص به الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته، لنجد ويل ديورانت من أخبث الأقلام التي تعاملت مع الملف الإسلامي بدهاء منقطع النظير، فهو يدس السم في الدسم، ويتعامل بهدوء شديد حتى ليخيل إلى القاري أنه كاتب موضوعي جدا، وهادئ جدا، ومنصف جدا للإسلام ونبيه وسيرته، بينما هو داهية خبيث ماكر يمرر بألفاظه الدقيقه العابرة ما يريده أن يستقر في عقل القارئ من شبهات تهدم قدسية الإسلام وتشين نبيه صل الله عليه وسلم.

ومن مكره الشديد بالقارئ أنه أحيانا يبدي لك إعجابه بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحه، وأنت أمام هذا المدح لا يسعك إلا أن تنبهر وتعجب بأن مفكرا وكتابا عظيما مثل هذا الكتاب يعلن تقديره لنبينا الكريم، بينما الرجل من جهة أخرى يمرر أفكارا سامة لا تستطيع أنت أمامها أن تتنكر لها أمام هذا المدح الذي خطف عينيك وتركيزك.

فهو يحاول تصوير النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المواضع على أنه مصلح اجتماعي وزعيم سياسي نبعت دعوته من احتياجات عصره وظروفه، وهذا الكلام الخادع يقع في شركه كثير من المسلمين السذج ويعتقدون الرجل مشيدا بنبيهم لتكون النتيجة أنه يعتقدون نبيهم مصلحا وزعيما من الزعماء والفلاسفة والمصلحين وليس نبيا يوحى إليه وجاء برسالة من عند ربه.

ثم يعمد الرجل بمكر وخبث موارب إلى الطعن في شخص النبي صلى الله عليه وسلم وتصويره بصفات بشعة لا تليق كل ذلك بأسلوب هادئ لا تتخيل أنت معه أنه يهين النبي أو يعتدي على عصمته، فيصف النبي بأنه قتل امرأة وقتل شيخا تخطى المائة لأنهما هجواه، ثم يغمز في جملة ماكرة ما يريد أن يشين به الرسول الكريم حينما يقول: «وضمت صفية – وهي فتاة يهودية في السابعة عشرة من عمرها، كانت مخطوبة لكنانة- إلى نساء النبي»

وهو ما يترك أسوأ الانطباعات لدى القراء عن النبي الكريم حينما يبصرون شيخا جاوز الخمسين يتزوج من فتاة في السابعة عشر، كما أنها كانت مخطوبة لرجل قبله من بني جنسها.

كل هذا فعله وهو يتصنع الهدوء ويتظاهر بالاتزان والانصاف ويخدع الناس بمثل كلامه عن براعة النبي في القيادة وشئون الحكم وفي التنظيم الاجتماعي، بل يصور النبي في صورة المتصابي والعصبي المزاج، والمريض الأعصاب والمصاب بالصرع

فيقول عنه صلى الله عليه وسلم: وقد أعانه نشاطه وصحته على أداء واجبات الحب والحرب، لكنه أخذ يضعف حينما بلغ التاسعة والخمسين من عمره، وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم.

والرجل الماكر هنا يبيض صفحة اليهود ويبرئهم من تهمة اغتيال النبي ومحاولة قتله وتسميمه وهي الواقعة الصحيحة التي شهدت بها سيرته الشريفة، لكنه هنا يحابي اليهود وينفي عنهم هذه التهمة، ثم تظهر وقاحته وهو يقول أن نشاطه وصحته قد أعاناه على مهمات الحب والحرب، فأي حب هذا الذي يريد هذا الكاتب المخادع أن يوهم القارئ به من أن الحب والرغبة في النساء كانت أولى المهمات لهذا النبي العربي؟!

كل هذا بأسلوب لين وطريقة هادئة ناعمة لا يمكن أبدا أن يتصور العقل معها أن الرجل يهين الإسلام ورسوله في شيء.

بل ثبت له في صفحات أخرى من الكتاب تصويره للمسلمين في صورة عصابات وقطاع طرق وأزال عنهم دوافع الفتح النبيلة السامية وما اكتنفها من نشر العدل والتسامح والمساواة وقهر الظلم والعدوان الذي وقع على البشر، فلم يكن جهاد وإنما طمع ونهب واغتصاب، بل زعم هذا الأفاق بأنك لن تجد قصصا تاريخية ملطخة بالدماء أبشع من قصة فتح المسلمين للهند.

ناهيك عما يثيره الكتاب من شبهات ضد القرآن الكريم من نظرته إليه بأنه كتاب لا صلة له بالسماء وأنه مقتبس من معلمين من أهل الكتاب وأهواء شخصية واضطرابات نفسية وصحبته لأحبار مطلعين على أخبار الأولين وقصص السالفين في التوراة والانجيل بل وحفاوته العظيمة باليهود ودفاعه عنهم ولغته الحانية في ذكرهم وتبرئتهم من كل شر وسوء، فهو يقول مثلا: كانوا أنقى أجناس الشرق الأدنى غير النقية، وأما نساؤهم وهن أجمل نساء الأمم القديمة… وكانت اللغة العبرية أعظم اللغات الرنانة على ظهر الأرض.

ويقول كذلك: ولم ير العالم شعبا آخر أولع بالفضيلة كولع اليهود.. ورأى كذلك أنه لشدة عدوانية المسلمين لم يطل حب اليهود من أهل المدينة المنورة لهذا الدين ذي النزعة الحربية.

وحسنا فعل الأزهر الشريف حينما نشر مؤخرا كتابين يظهران عوار هذا الكتاب الذي خدع جماهير عريضة من المثقفين، ويردان على شبهاته المغرضة ويكشفان مكره المتسربل بزي الإنصاف والموضوعية.. وهو الأمر الذي يجب أن نعلنه للجميع فنحذرهم من خطورة هذا الكتاب فيما يتعلق بالحديث عن الإسلام واليهود.

وإن المرء ليحزن أن يكون الحديث عن الإسلام في أفواه عدد من المثقفين مأخوذا من كتاب خطه صهيوني جاهل بحقيقة الإسلام، بينما يهجر هؤلاء المتكلمين كتب الإسلام المعتمدة كسيرة ابن هشام وزاد المعاد وكتب السنة الصحيحة، التي لا تمثل في نظرهم شيئا من العلم المفيد، بينما الكتاب المكذوب الذي يعج بالإفك والزيف هو عين الثقافة وأساس المعرفة.

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى