حاتم سلامة يكتب: طلاب «دار العلوم» كفار!
المعركة بين «الأزهر» و«دار العلوم»
عرفت علماء وأساتذة كبارا من خريجي دار العلوم، وهم يعتزون ببدئهم الأزهري، حيث تلقوا تعليمهم الأول على مناهج الأزهر وتشربوا روحه وطريقته، قبل أن يُكتب لهم النبوغ في أروقة دار العلوم، لكنهم بين الحين والحين، لا يغمطون أزهريتهم أبدا ولا يخذلون أثرها فيهم.
وسبحان الله فقد كان من هؤلاء العالم المؤرخ الكبير دكتور (أحمد شلبي)، والمفكر الضخم العملاق (محمد عمارة) رحمهما الله.
وفي الوقت الذي يظهر فيه أمثال هؤلاء الأبرار الأوفياء، ظهر نمط آخر من الدارسين والمتخرجين، خاصة من أجيال دار العلوم، وهم يستقلون بالأزهر، ويستهينون بمقامه وقدره وأثره وقيمته، فهم لا يرونه على شيء، ومحال له أن يطال من النبوغ في علوم العربية والدين، كما طالت دار العلوم.
وهذه الاستهانة للأسف، لم يتول كبرها تلاميذ صغار أو طلبة يفتقدون للحكمة والرشد والتقويم السليم، وإنما قام واستشاط بزعقها أساتذة ومحاضرون في عرين الدار.. وهو مما يؤسف له.
منذ أيام يسيرة حدثني أخي الحبيب دكتور (أحمد فرحات) وكان الحديث يدور حول شخصية الدكتور محمد رجب البيومي، الذي لم يقرأ له كثيرا، وقد تعجبت من ذلك أن يهمل الدكتور فرحات قامة عظمى مثل الدكتور البيومي الذي ضرب في كل فن، وكانت له جهوده الهائلة في النقد والشعر واللغة والفكر والتاريخ، مما حدا بالبعض أن ينادي به عميدا للأدب العربي المعاصر.
كانت صراحة الدكتور فرحات كاشفة ليبرئ ساحته، ويلقي باللوم على أساتذته في دار العلوم وهم يصورون له ولأترابه أن الأزهر قبلة الجهل والتخلف، وأن القراءة للأزهريين لا قيمة لها ومضيعة للوقت، فاللغة الحقة في دار العلوم، والنقد الحقيقي في دار العلوم، حتى علوم الشريعة في دار العلوم.
وأمام انطباع الدكتور فرحات، أذكر رؤية أخرى لأخي الدكتور (عصام أبو زيد) الدرعمي المتفوق وهو يحدثني منبهرا بالشيخ الشعراوي لغويا، وكيف أن في دار العلوم شيوخ كبار يعدونه أعلم الناس باللغة.. وتلك سماحة بادية وإنصاف كريم، وإحقاق للحق في مكانه.
ومن قبله كان الدكتور عبد اللطيف أبو همام، والذي سارع لكتابة مقالة في الأخبار يقرض بها ويحتفي بالتحقيق الذي أصدره الأزهري النابغة، وعمدة محققي العصر، فضيلة الدكتور النبوي شعلان، في تحقيقه لكتاب العمدة لابن رشيق، وعنون المقالة بقوله: العمدة يحقق العمدة!
الدراعمة جميعا يعرفون من هو أبو همام، فهو لاشك من مفاخرهم الوضيئة، وهو بعد بهذه الشهادة، يسجل اسمه في سجل الأنقياء المنصفين، ولم لا.. والنبوي قد تفرد بما صنع وسما بما فعل، وأتى بما يعجز عنه الكثيرون من فطاحل العلم والتحقيق، فقد أنفق في هذا العمل 16 عاما من حياته.
بل كان بعض الدراعمة يسوؤهم أن يُهمل ذكره، حتى صارحه يوما بقوله: مشكلتك يا دكتور نبوي أنك أزهري، ولو أن مثلك في دار العلوم، لسارت بصيتك الركبان.
القضية إذن قد ترجع أحيانا إلى الحفاوة الإعلامية، التي تتنكر كثيرا للأزهر، نظرا لهويته الدينية، وغلبته الإسلامية، وترحب بدار العلوم ورموزها، لتحررها من هذا الجانب بعض الشيء، خلافا لما عليه الأزهر ورجاله.
حتى في مجال الشريعة والعلوم الإسلامية، رأيت من خريجي دار العلوم، من يتنكر للأزهر والأزهريين، ليثبت تفوق دار العلوم حتى في هذا الميدان، الذي يعد الأزهر معقله وحصنه، وقد رأيت بعضهم، وهو يذكر أستاذه الجليند، ويطاول به عنان السماء، زاعما أن سموه العلمي الشرعي لم يبلغ به أحد من الأزهريين.!
وهذا لا شك تجاوز للحق تفجرت به عصبية شائطة، أو عاطفة عمياء.
بل هي روح كئيبة غريبة، تجسد لي ما كان يحدث قديما من صراع المذاهب الفقهية، وتعصب كل فريق لمذهبه.
وقد قيل: يغار العلماء من بعضهم كغيرة التيوس في حظائرها.
التحرش بين الأزهر ودار العلوم بدأ قديما منذ تأسيسها، حينما اعتمدت الجامعة على الأزهر والأزهريين لتدريس الجانب الديني واللغوي في دار العلوم وهيأت له أسباب إدارتها، حتى عدت دار العلوم في هذا الوقت، فرعا من الأزهر الشريف، ولكن بعض الطلاب المتمردين على الأزهر، قرروا الخروج عن سطوته، واستبدلوا العمامة بالبدلة والطربوش، تأسيا بطه حسين الأزهري، الذي خلع عمامته وارتدى الزي الإفرنجي، وقرر الطلاب تنظيم مسيرة تطالب بتغيير الزي الأزهري المفروض عليهم والتجرد منه، وقام الأزهر برفض مطالب الطلاب، حتى وصل الأمر بالشيخ (محمد أبو الفضل الجيزاوي) مفتي مملكة مصر في ذلك الوقت، أن يصدر فتوى بتكفير من يرتدي الزي الإفرنجي من طلاب دار العلوم، بعد حرب فكرية دامت 3 سنوات، حتى وافق الأزهر أخيرا على رغبة الطلاب.
وقبل أن يستاء البعض من هذه الفتوى وجب أن يعرف أسبابها في أحداث هذا الوقت، حتى يتخفف من صدمتها على عقله واستيعابه، فقد سقطت الخلافة الإسلامية قبل هذا الحدث بعامين 1924م، وجعل هذا السقوط من البورنيطة والطربوش رمزا علمانيا، واعتمد أتاتورك تصدير هذا الزي حتى للدارسين للعلوم الإسلامية في العالم الإسلامي.. ومن ثم قامت الفتوى اعتمادا على هذا الجانب.
والمراد لي في هذا الميدان أن أقرر أن نبتة دار العلوم هي نبتة أزهرية، من سقاها ورعاها حتى أثمرت وأينعت هم علماء الأزهر، ومحاولة التقليل من الأصل والتجني عليه، شيء مذموم غر لائق، لا يقف على الحق والإنصاف، ففي هذا الصرح العملاق علماء حاذوا قصب السبق في العلوم، وتفردوا في مسار النبوغ بما يُعجز الآخرين.
********************************
بقي أن أشير إلى نقطة العنوان وقد كان المفروض أن ألفتك إليها ابتداء حتى لا تنفعل وتنصدم وينجرف عقلك إلى ظنون بلهاء، فهو عنوان لا غاية له إلا إثارتك وجرك لقراءته، وهو وإن كان لا يعبر عن مضمونه تعبيرا واقعيا، إلا أنني اقتبسته من شاهد تاريخي وحادثة قديمة، وهو بيان مهم لأن بعض العقول تعيينا في فهمها الحرفي النصوصي لكل كلمة، دون النظر للفن الكتابي والتحريري والصياغي.