بحوث ودراسات

حاتم سلامة يكتب: «طه حسين».. لم ينافح عن الإسلام يومًا

في حديثي مع صديقي (أحمد سيف) أخبرني أن مجلة الهلال سارعت هي الأخرى على غرار مجلة الثقافة الجديدة، لتصدر عددًا خاصًا بالعميد الدكتور طه حسين، وأخذ يحكي لي عن بعض المقالات المهمة بالعدد، والتي كان منها مقال غريب في موضوعه ومضمونه قد استلفت انتباهي وراعني خبره، حينما أنبأني أنه يحكي عن دفاع طه حسين عن الإسلام ضد المبشرين، استغربت كثيرًا فما عهدت طه في كل ما كتب مدافعًا عن الإسلام في شيء، يمكن له أن يؤلف كتابا عن الإسلام أو السيرة، لكن أن يدفع نفسه ليكون من حماة الإسلام فذلك مالم يكن.

طلبت من صديقي سرعة تصوير المقال، لأن العدد غير متوفر لدي، فإذا المقال للأستاذ الكبير والعالم الجليل الدكتور (مصطفى رجب)، الذي أجله وأوقره، وكانت معرفتي بقامته من حسنات هذا الفضاء الأزرق، وبيني وبينه حديث وحوار، وأعده أستاذًا لي وأتشرف هنا بأن أعلن أنه يصحح لي كثيرًا من اللغويات والأخطاء التعبيرية في مقالاتي، وهو مما أفخر به، وأراه زهوًا به لرتبته العلمية الكبيرة… لكنه كوالد قبل أن يكون عالمًا، لا شك أنه يسمح لتلميذ له أن يختلف معه في رؤاه وما طرحه حول العميد الدكتور طه حسين.

ابتدأ معالي الدكتور مقاله بجملة أثارتني حينما رمى من يختلفون مع العميد بالمتعصبين وقصار النظر، استنادًا إلى قضية الشعر الجاهلي، وذكر أن هؤلاء المتعصبين لا يعلمون أن طه حسين لم يقبل أن يهان الإسلام في بلد الأزهر الشريف، وأنه قاد حملات عنيفة ضد أولئك المبشرين الذين أرادوا بالإسلام وبمصر كل سوء في ثلاثينات القرن الماضي.

والحق أنني عبر قراءاتي الممتدة، كنت قد علمت بأمر هذه القضية وقرأت عن الفرسان الكبار الذين وقفوا في أتونها يدافعون عن الإسلام، ومنهم الكاتب الكبير الدكتور هيكل، وكان مما فاجأني أن يذكر الدكتور طه في هذه القضية بصورة سلبية غير إيجابية، ففي كتابه عن الدكتور هيكل، ذكر العلامة الدكتور محمد رجب البيومي، أن هيكل رأس تحرير جريدة السياسة وقت ظهور هذه الفتنة -فتنة المبشرين- في عهد اسماعيل صدقي، وأنه كتب 30 مقالا يرد به هذه الهجمة الشرسة ويدافع عن الإسلام ويحميه من هذا العدوان، وأنت إذا طالعت هذه المقالات وراجعتها، لوجدت رائحة الغيرة على الإسلام تفوح منها بوضوح بالغ فيما تطرق إليه هيكل من حماية العقيدة والصراع بين الغرب النصراني والشرق الإسلامي.

وهنا يظهر الدكتور طه حسين بموقف عجب، فإذا به كما ذكر البيومي يسخر من جريدة السياسة التي تبنت هذه الحملة الشعواء على التبشير والمبشرين، وصبت كل تركيزها على التصدي لهم، ليكتب في جريدة (كوكب الشرق) قوله: “الحديث عن المبشرين فرض كفاية، فإذا قام به المراغي سقط عن الظواهري، وقد تحدث المراغي أول أمس فسكت الظواهري أمس، ولكن السياسة قليلة العلم بالفقه، فهي تعتقد أن على كل عالم من علماء الدين أن يتحدث عن المبشرين، والحديث عن المبشرين لا يخلو من ضرر، لا سيما حينما يكون المتحدث من أهل المناصب الكبرى، فهو قد يغلو فيستقيل أو يقال، وقد يقصر فتسوء به الظنون”

والحق أن عرض مثل هذا الكلام أمام ما كتبه معالي الدكتور مصطفى، يظهر لنا شيئا آخر وصورة مغايرة للرجل الذي حاول الدكتور مصطفى أن يصوره أنه من حماة الإسلام.!

فالرجل بدلا من أن تأخذه الغيرة على دينه في وجه هذه الحملة النكراء، فيدعوا الجميع للتصدي لها وحماية الإسلام منها، أخذ يثبط الهمم ويسفه جهود الأقلام، وقد أوشك أن يطالبها بالسكوت والصمت بصورة غير معلنة، ثم هو يتهمها بعدم الفقه والعلم، وقد وقع هو في ذلك بصورة بالغة، فإن الدفاع عن الدين في مثل تلك القضية، فرض عين على الجميع، لا فرض كفاية كما ادعى العميد.

قدر لي أن أتذكر ذلك الموقف للعميد أمام ما قرأته لمعالي الدكتور (مصطفى رجب) عن مقالات العميد فيما يخص قضية المبشرين.

والدكتور مصطفى لم يؤلف أو يختلق مثل هذه المقالات المنسوبة لطه حسين، وإنما أوعزها إلى مصادرها، ونوه بمراجعها، وهي فعلا من مكتوب طه رحمه الله ولكن.

نعم ولكن.. نريد أن نقول: تحت أي معنى وبأي لغة وبأية روح، كتب طه حسين كلامه؟

هل كتبه فعلا نفاحًا عن الإسلام وغيرة عليه، أم كتبه بنمط آخر توافق وتضامن مع من كتبوا في الأمر حمية لدينهم؟

الحق الذي يتضح في كلام طه حسين ومما أدرجه الدكتور مصطفى، أن الرجل كان يتحدث بوضوح شديد، عن احترام الحرية الوطنية والزود عن حرية الرأي والقومية وإجلال القانون والنظام الذي يقضي بأن الإسلام دين الدولة الرسمي، وأنه لا إكراه في الفكر والدين، لا على المسيحي ولا على المسلم، ووجب على الحكومة أن تحمي كل دين قائم في أرض مصر.

وتحدث عن دور الحكومة في الإشراف على المدارس ومراقبة التعليم وسلوكيات الطلاب حتى لا تحدث مثل تلك الخروقات، وحق المصريين في رد ما يخالف طبيعتهم ومأثوراتهم.

ثم هو يطالب بالتصدي لهذه الفئة لا لأنها خطر على الإسلام، ولكن لأنها أفسدت المجتمع وعملت على نشر الفساد والرذيلة وأشاعت الانحراف الخلقي في المؤسسات التربوية، فأخذوا يغررون بالفتيات الصغيرات فيغرونهن بالحب ثم يتزوجونهن، بعد أن يرتددن عن الإسلام، أو يغتصبونهن ثم يتركونهن، وقد كشف طه عن هذه الأفاعيل الدنيئة في مقال ساخن تحت عنوان (فتنة)، وكل هذا يحمد له ويشكر له، أن يبحث ويتحدث فيما يحمي وطنه ويحمي الفكر والرأي ويحافظ على الأمن والاستقرار.. هو فعل سوي لا يمكن نكرانه أو الاعتراض عليه، لكن محاولة إنزاله في منزل الغيرة والدفاع عن الإسلام ضد خصومه، فأرى أن هذا يحمل الصورة مالم تشر إليه أبدا، ومالم يقصده طه نفسه فيما كتب من مثل هذه المقالات!

ففي الفقرة من صفحة (196) من المجلة كتب الدكتور مصطفى رجب: “وطالب –أي طه- الحكومة غير مرة بحماية هذا الدين والزود عن الإسلام وقد وصلت أصداء قضية التبشير إلى البرلمان….”

ثم أعقب بعد ذلك نصًا لطه حسين من مقالته تحت عنوان (إذن) ونظرت في المقال لأجد وأتحسس المطالبة بحماية الدين والزود عن الإسلام، فلم أجد إلا أن الرجل يطالب الحكومة أن تتحرك واستنكر عليها سكوتها وضعفها أم مشكلة اجتماعية سياسية أمنية في نظر طه حسين قبل أن تكون مشكلة دينية.

لم يكن لحفظ الإسلام والعدوان عليه والمطالبة بحمايته حظ واضح في السطور حتى يجعل منها الدكتور مصطفى سبيلا إلى الدفاع عن الإسلام

 ثم يعود الدكتور مصطفى في نهاية المقال الطويل ليقول: “هكذا كان قلم طه حسين سيفا مسلطا على التنصير والمنصرين في الوقت الذي يتهمه فيه أعداؤه بأنه كان ضد الإسلام، وهذه صفحات مجهولة من حياة هذا الزاهد العظيم”

وأكرر أنني لا أنكر أبدًا أن الرجل قد هاجم التبشير والمبشرين، وكانت له مقالاته اللاذعة في أمرهم، لكن المنطلق في حديث الدكتور مصطفى، لم يكن بهذا المنحى الذي وضع فيه الرجل، نحن لا ننكر على العميد أنه مسلم، ولا نكفره والعياذ بالله، ولا ندخله النار فأمره إلى ربه، بل أنا أقر دومًا بموهبته وأنعته بما نعته به محبوه من أنه العميد، لكن فكره ومواقفه من كثير من الثوابت الإسلامية غير مشرف، ولم تثبت عنه توبة معلنة، وقد تراجع عن بعض أفكاره، فيما ورد في بعض المؤلفات، لكنه لم يعلن البراءة الكاملة من كثير من أفكاره الصادمة، التي كانت تستحق توبة معلنة، مثل طعنه النقدي في القرآن الكريم الذي ورد في الشعر الجاهلي، وتشويه معالم ومجتمع الصحابة في كثير من مؤلفاته كالوعد الحق والشيخان والفتنة الكبرى، وغير ذلك مما ليس مجاله الآن.

وأريد أن أقول: حينما نقارن بين ما كتب هيكل في قضية التبشير، وما كتبه العميد، نرى الفرق هائلا، في الأسلوب والخطاب وبارقة الروح الإسلامية التي تجلت في خطاب هيكل، ليكون هو الأليق بما وصف به الدكتور مصطفى حالة العميد.

تابعت مقالات هذا العدد لأقف على غيرها مما كتب محبو العميد، فإذا بي أجد مقالة للدكتور الجليل (محمود خليل) وأراه فيها قد عبر عن ذلك المعنى لرأيي الذي ذكرته وأعلنته قديما في شأن طه حسين، وقد سعدت كثيرًا أن أرى قامة كبيرة كالدكتور محمود خليل نطق بما نطقت به، ووصل إلى ما توصلت إليه، وذلك مما أفرحني أن أجد عقلي يسير على خطى العباقرة.

لقد كتبت قديمًا عن رأيي هذا والذي أثار حفيظة المعترضين فقلت فيه:” توصلت في النهاية بعد دراسات طويلة عن طه حسين وتعمق في نفسيته ومواقفه وطبيعة شخصيته، إلى كلمة لابد منها خاصة عند المتشبثين بعودته الإسلامية وأوبته الدينية، إلى أن المسألة ليست مسألة عودة ولا تصحيح فكر أو براءة معتقد، ولكن هذا الرجل كان مضطربا متمردا لا يصبر على حال واحد، تراه كل يوم في شأن، وكل وقت برأي مختلف، اليوم معك ويمدحك، وغدا ضدك يذمك، اليوم ضد الإسلام، وبعد قليل معه ينصف كتابه، اليوم يمدح العبقريات ويثني على صاحبها، وغدا يذمها ويهوي بها إلى الأرض.

هكذا كان طه حسين، وهكذا كانت طبيعته، وأقول لكل من يظن أوبته الإسلامية: إنه لو قدر له العيش بعد ما كتب في مرآة الإسلام، لظهر له كتاب آخر ينكر فيه ما أقره سلفا، والدليل على ذلك أنه لم تكن لديه نفرة، ولا براءة معلنة من أفكاره السالفة، مما يدل على أنها عنده لا تعدو كونها أفكارا، يؤيدها حينا، ويحيد عنها حينا آخر.”

وهنا يأتي كلام الدكتور محمود خليل والذي أوافقه فيه ويوافقني فيه، إذ يقول في مقالهِ بذات المجلة: ” وظلت هذه المتلازمة المرتابة في معظم حياته- والمريبة في بعضها- تتعلق بالرجل تعلق الروح بالجسد، فراح في الكثير من أفكاره يترامى بين الشاطئين، ويتردد بين القطبين، ويعمل تحت الرايتين.. فمن قمة التشدد والجموح الإسلامي، إلى قمة التمرد والجنوح الإسلامي أيضا، ومن قمة الانتصار للشريعة الإسلامية، إلى قمة الخروج عليها وعلى نصها المقدس، ومن حصير الكتاب إلى شواطئ فرنسا ومن قمة الخوف والتواري، إلى قمة الشجاعة والمكاشفة والمصارحة، ومن هنا إلى هنا، ومن هناك إلى هناك”

وفي ظلال ما قرأت وعبر ما عاينت، أريد أيها القارئ أن ألفتك لنقطة مهمة وهي، أن بعض الكتاب أو القراء، قد تصادفه بعض مكتوبات طه حسين الإسلامية، فإذا به يحسن الظن به ويدافع عنه، ويرفع قامته إلى السماء، ويجزم بأنه من أحرار الفكر الإسلامي، وأن من يهاجمونه جهلاء بقيمته الدينية، ومن ثم ينقلبون على كل ما نكتب ونظهر ونبين.

وفئة أخرى تقرأ له ما ساقها لاتهامه بالانحراف، ثم يقع في أيديها بعض إسلامياته، فيحارون ويضطربون، ثم يخلصون في النهاية أن الرجل قد تاب بدليل ما يرون من مكتوبات الهداية والحق.

وهؤلاء وأولئك قد غفلوا عن رأينا الذي ذكرناه قبل ذكر أمرهم ورواية حيرتهم… وهو أن الرجل كان متناقضًا منقسمًا محيرًا لا يستقر على حال.

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى