أقلام حرة

حاتم سلامة يكتب: عبد الوهاب مطاوع وقضية فلسطين

لما كان رحمه الله النموذج الأمثل للكاتب الإنسان، لم يفته أن يتأثر بكل مشاعره وجوارحه وأحاسيسه وقلبه المفعم بالأسى والحزن لآلام المعذبين وجراح المضطهدين في فلسط .ين، قضية المسلمين والعرب الأولى والمصيرية.

لم يكن اهتمامه فيها بالسياسة، ولا التاريخ، بقدر ما كان قلمه يعرض لها كمحنة إنسانية لا تنتهي، تخرق معها كل ما تعارف عليه العالم من حقوق الإنسان وكرامة البشر.

وقد أحببت أن أجتز جزءا يسيرا من كتابي عنه (عبد الوهاب مطاوع .. رحلة في حياة الكاتب والإنسان) لما تمر به القضية من محنة عاتية.. وها هو النص:

لم يكن (عبد الوهاب مطاوع) رحمه الله من أصحاب الأقلام التي تكتب في اللهو والعبث، ولم يقتصر مداد قلمه الرحيم، على نوادر الأدب وطرائف الإنسانية المسلية، ولم يبحر قلمه في عباب الحاضر والماضي ليستلهم الدروس والعبر، التي تنشي القراء وتؤجج نهمهم للقراءة.. كان قلم مطاوع رغم بعده عن السياسة، مهمومًا بقضايا أمته، شاعرًا بآلام المظلومين والمضطهدين، ساخطًا على الغاصبين والمحتلين، ناعيًا فقد الشهداء والمكلومين.. فها هو أمام قضية فلسط.ين الكبرى، ذلك الجرح الدامي في حياة أمتنا على مر العقود والسنين، لم يتخلَّ قلمه عن التنديد بما يقع على أهلها من ظلم، وما يقابلهم به العدو من قهر وعدوان.

كان ما يحدث في فلسطين، يبعث الحرارة والاكتئاب في نفسه، وكان لا يستطيع أن يصف ذلك السوء الذي بلغ به حاله، وهو يجلس أمام التليفزيون، يطالع مشاهد وداع الشهداء من الفتية الصغار في الأرض المحتلة، ولا يدير الراديو إلا ويسمع نواح أهاليهم وزئير دموعهم، ونشيدهم الجنائزي الحزين، ولا يمسك صحيفة إلا ويقرأ عن شهداء جُدُد ينضمون إلى قائمة الأحياء عند ربهم يرزقون.

وبِحسِّ الإنسان العطوف والكاتب الإنسان، والمسلم الصادق، كان يتساءل: كيف يحبس المرء دمعه، وهو يرى صبية صغارًا في العاشرة والثانية عشرة من أعمارهم، محمولين فوق المحفاة، ملفوفين بعلم بلادهم ووجهوههم مكشوفة، وساكنة سكون الموت الأبدي، وقد كانت منذ قليل تضج بالغضب والإصرار والأمل في حياة أفضل؟!

ثم يُعبِّر عن حاله، وما أصاب نفسه مما يرى فيقول: ” إن القلب حزين، والنفس مثقلة بما ترى وتسمع كل يوم، واللسان عاجز عن أن يعبِّر عن كل ما في الصدر من غضب وضيق ومرارة.

فهل آن لهذا الليل الطويل أن ينقضي، وينبلج الصباح حاملاً معه العدل والكرامة والأمان للمضطهدين والمستضعفين في الأرض؟”

ثم نراه يقول حزينًا: ” وهل كانت تشعر بذلك تلك الأم الفلسط .ينية التي رأيتها على شاشة التليفزيون تحمل صورة ابنها الشهيد الذي لم يتجاور يا حسرة.. السابعة عشرة من عمره، وتزغرد «فرحًا» باستشهاده زغرودة كالولولة الحزينة أوجعت القلب بأكثر مما تفعل الولولة والنحيب؟ ولماذا شعرت باكتئاب الدنيا كلها وأنا أرى هذه الأم الثكلى وهي تتعالى على أحزانها، وتتجلد عند استشهاد ابنها؟! ولماذا تذكرت في تلك اللحظة عبارة التعزية الشعبية الشائعة في ربوع الشام، حين يريد أحدهم أن يخفف عن أب ثاكل أحزانه على فقد ابن، فيقول له مُصبرًا: إن من أخذه من أمامه، قادر على أن يأخذه أيضًا من قلبه!

بمعنى أنه يدعو له بنسيان من فقده، لكي يتخفف من آلامه، فهل «ينسى» الأب الثاكل والأم الثكلى حقًا، ثمرة القلب الحزين حين يغيب عن الحياة؟!”

ثم يروي لنا موقفًا حدث له حينما كان في السويد، يحضر احتفالات توزيع جوائز نوبل، و جمعته مائدة العشاء مع صحفي ألماني، ودار بينهما حديث السياسة الذي لا مفر منه في مثل هذه المناسبات، وتطرق بهما الحديث إلى القضية الفلسطي .نية، يقول مطاوع: “قال لي الصحفي الألماني: إن الطرف الآخر في الصراع مدجج بالسلاح حتى قمة الرأس، وبالتفوق التكنولوجي والدعم الأمريكي وميزان القوة لصالحه الآن وفي المدى القريب، فكيف ستستردون الأرض الفلسط .ي نية إذن من أنيابه؟ وماذا يملك الفلسطي .نيون أن يفعلوا إذا رفضوا شروط الإسرا .ئيل *يين وسلامهم الذي يريدون فرضه عليهم؟ المنقوص؟، فأجبته: بأنهم يملكون مالاً يملكه الطرف الآخر في الصراع، وهو المقاومة والرفض إلى آخر نفس، وتقديم الشهداء طلبًا للحق والعدل إلى مالا نهاية، ورويت له قصة ندوة سياسية شهدتها قبل سنوات، ضمت كُتابًا غربيين وعربًا، وتوجه خلالها أحد الكتاب الغربيين بنفس هذا السؤال لسيدة فلسطي .نية شابة، وسألها بتحد: بأي شيء ستحاربين، لكي تنالوا مطالبكم من الطرف الآخر؟

فأجابته في هدوء: ببطني! وقبل أن يفيق الحاضرون من ذهولهم لهذه الإجابة غير المتوقعة، كانت قد شرحتها لهم، فقالت: إنها سوف تتزوج وتنجب سبعة أبناء، لا تريد منهم سوى اثنين فقط، أما الخمسة الباقون فسوف تهبهم للقضية، ولن تحزن حين يستشهدون الواحد بعد الآخر، لن تموت القضية، ولن يضيع الحق مهما يطول الظلم!

وهل يصبح غريبًا بعد ذلك أن نرى أطفالاً في الخامسة والسادسة من أعمارهم يقذفون الحجارة على جنود مدججين بالسلاح، ويعرضون حياتهم للخطر، ومن هو الشجاع في هذا المشهد الغريب، الطفل الذي يخرج إلى الشارع وهو يعرف أن الموت قد يحصده في أية لحظة، أم الجندي الأشوس الذي يرتدي قميصًا واقيًا من الرصاص، ولا يتردد لحظة في أن يرد على «حجر» هذا الطفل بالذخيرة الحية؟

وفي أي عرف ودين يكون الرد على القذف بالحجارة، بالرصاص الحي وبالتصويب في مقتل من الرأس والقلب؟! ومن يكون إذن مجرم الحرب الذي لا تسقط جريمته بمضي المدة إن لم يكن مثل هذا الجندي الجبان المتعصب تعصبًا عرقيًّا أعمى، وأمره بالضرب المباشر وحكامه ومحرضوه؟”

لم يعتبر رحمه الله نعيه لقضية فلسط .ين من باب الحديث في السياسة، ولكنه كان حديثًا تفرضه أمانة الكاتب المهموم بقضايا أمته، بل بقضايا الإنسانية والمعذبين في الأرض.

فيقول رحمه الله: “إنني لا أحب الكتابة في السياسة، ولا أفضل خوض غمارها؛ إيمانًا منِّي بأن لكل ميدان رجاله، ولأنني أيضًا قد عاهدت نفسي منذ أمسكت بالقلم ألا أكتب كلمة لا أؤمن بصدقها حتى ولو تبيَّن لي فيما بعد خطأ اعتقادي، فالمهم هو أنني لم أكتبها حين كتبتها إلا وأنا مؤمن بها، لكن نهر الدم الذي يجري أمام العين، والمشاعر الكئيبة التي تحيط بنا من كل جانب، قد فرضت عليَّ أن أكتب هذه الكلمات العاجزة، وشعرت بأنني لن أكون صادقًا مع نفسي، إذا راغمت قلمي على أن يكتب في أي موضوع آخر، وسلامًا على الشهداء في مستقرهم الأمين، وأملاً ودعاء ألا يضيع دمهم الطاهر هدرًا.”

هل تلاحظ معي أن نفس المشاهد التي تأثر بها الأستاذ الرحيم هي هي ذاتها لم تتغير ولم تتبدل، نفس المشاهد المؤلمة والجراحات الدامية التي يئن لها القلب ويعصف هولها بالروح، وكان ذلك منذ سنين مضت ليظل الحال كما هو لا جديد إلا الأمل والحسرة.

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى