حاتم سلامة يكتب: في حضرة الشيخ حسن أيوب
في فترة التسعينات وفي شرخ الشباب وأنا أقيم في قريتي سنجرج مركز منوف، كانت المدينة تبعد عنا مسافة ثلث أو ربع ساعة، وفي هذه الفترة كانت الروح الدينية متوهجة في نفسي، وكنت مرتبطا بالثقافة الإسلامية وحب العلم بحكم نهج أسرتي ودراستي الأزهرية، وكنت أنا وأصدقائي نتسابق في اقتناء الكتب والاسفار الدينية، ونحرص على شراء مجلتي التوحيد والازهر الشريف، ويوما ما سمعنا عن شيخ جليل وعالم كبير اسمه حسن أيوب، رجع من المملكة العربية السعودية، وصار له مسجد يلقي فيه دروس العلم في مدينة منوف وهو مسجد الأنصار بجوار كلية الهندسة الالكترونية، فواظبت على الحضور إليه في خطبة الجمعة، وكذلك كنت أحضر دروسه العلمية التي يلقيها بعد المغرب يومين من كل أسبوع، كان الرجل يهدر بالعلم، وفقيه كبير ومفتيا ضليعا، لا تقف أمامه مسألة، وأي شيء يسأل فيه يجيب، وكنا نرسل له الورقة المحملة بالأسئلة فيجيب عليها في خاتمة الدرس، أما خطبه فكان إلقاءه عظيما قويا رغم كبر سنه، لكنه إذا غضب أو تفاعل مع ما يلقيه كان كالعاصفة التي تلهب مشاعر المتلقين، ومن كثرة الاقبال عليه جرت توسيعات كبيرة في المسجد، فالناس يتدفقون ويفترشون كل مكان.. كان الناس متعطشون للعلم والعالم الرباني الصادق وكان هو الصورة المثلى لذلك.
ويوما بعد يوم أدمنت حضور دروسه خاصة حينما انتقل في مسجد آخر وهو مسجد أولاد غانم بجوار مستشفى المواساة الإسلامي وكنت لا أستريح إلا وأنا أجلس أمامه وأملي عيني من وجهه الذي يشع بالنور، ولو أننا ظللنا في هذا الدرس ساعات وساعات لما مللنا أو فترنا، كنت أشعر أنني في روضة من رياض الجنة، ثم دفعنا حبنا للشيخ أن نقتني كتبه وكانت كتبا مفيدة عظيمة ككتاب السلوك الاجتماعي في الإسلام، وكتاب رحلة الخلود وكتاب تبسيط العقائد الإسلامية وغيرها من الكتب القيمة والكتب الفقهية تحديدا التي نسج وصاغ فيها أحكام الفقه بشكل مبسط ومفيد وهادف.
إلى أن اعتزل رحمه الله أو أقصي لا أعرف تحديدا لكنني ذهبت يوما لأحضر درسه فإذا بي أجد مكانه رجلا لا طعم له ولا جاذبية، رجل منفر لا تجب الجلوس إليه، وجهه لا يبعث على الراحة والطمأنينة، علمت حينما سألت عنه أنه الشيخ السلفي المدعو محمد سعيد رسلان، جاء مكان الشيخ ليحل محله، ولكن أين الثرى من الثريا؟ أين هذا وأمثاله من عالم مناضل مكين أمين.. وأنا أتعجب اليوم من هذيان بعض المتصوفة وحفاوتهم بشيخهم علي جمعة وكيف يعلون رتبة الرجل إلى مراتب الأنبياء لأقول: كيف بهؤلاء لو حضروا درسا للشيخ حسن أيوب؟ كيف يا ترى ستكون مبلغ فتنتهم به، لقد كان الرجل يهدر بالعلم والبيان إلى حد يأخذ العقل ويدهش الوجدان، لقد كانت نظرتنا للشيخ حسن أيوب لم تكن على أنه مجرد عالم دين، بل كانت نظرتنا له أننا أمام بطل ومجاهد عذبته السجون الناصرية حتى أحدثت له عاهة في قدمه وتسببت له في عرج وإعاقة، وقرأت في مذكرات الأديب الكبير نجيب الكيلاني طرفا من قصة تعذيب الشيخ حسن أيوب مما يحزن النفس على الكرامة التي أهينت والبلاء العصيب الذي تعرض له الرجل النبيل.. وذلك لأنه كان في بداية حياته عضوا في جماعة الإخوان المسلمين نشأ فيها وتربى على يد روادها، لكنه بعد ذلك ترك الجماعة وأخذ يمارس نشاطه الدعوي بعيدا عنها، وصار غير محسوب عليها في شيء.. كان يدرك أن العالم وهي المرحلة التي يمر بها لابد أن يكون لكل المسلمين لا أن يختص بجماعة بعينها أو يمثل طائفة بذاتها.. وصل الشيخ حسن أيوب إلى التليفزيون، وكان الإذاعي الكبير أحمد فراج يستضيفه في بعض الحلقات يسأله في الفقه والفتاوى، كان الشيخ في خصومة مع التيارات السلفية الحرفية وكانوا يحضرون دروسه، وما أن يثير أحدهم أمامه مشكلة ويتحدث بالعلم، يخرسه الشيخ بالعلم الغذير والفهم الواسع والأدلة الدامغة، فقد كان رحمه الله بحر لا ساحل له.
كان حسن أيوب هو مثال الداعية الناجح والمصلح الذي يعرف كيف يأخذ بزمام المجتمع نحو الهداية، شرح لنا ذلك وعرفنا به تلك الداعية الكويتي الشهير أحمد القطان الذي ذكر لنا قصة هدايته لطريق الدعوة والالتزام على يد الشيخ حسن أيوب..
اعتزل الشيخ وحل محله هذا الداعية العابس البائس رسلان، وظل رحمه الله على اتصال بالجمهور عبر الهاتف، الكل يسأله فيفتيه ويحل مشاكلهم ويهديهم سواء الصراط، وكنت ممن يتصل به كثيرا لاستفتيه في المسائل، حتى وافته المنية رحمه الله عام 2008 وكنت وقتها قد أكملت عامي الثلاثين وهاجرت مصر إلى المملكة العربية السعودية، وهناك سمعت بالنبأ الصاعقة وهو وفاة الشيخ حسن أيوب رحمه الله تعالى، فحزنت حزنا شديدا على الرجل الذي تعلمنا وتربينا على يديه رحمه الله، وكان مما يذكره كثيرا ويردده في حلقات كثيرة، جملة أخذتها وحفظتها عنه وهي: (إن الإنسان بدون دين وبدون خلق هو أقذر وحش على هذه الأرض) كان يقولها وهو يضرب بيده القوية على المنضدة، معلنا سخطه على ما يفعله شياطين البشر من إجرام وطغيان.. هل تصدقني لو قلت لك: إن مدينة منوف قد أظلمت وكللتها سحب اليأس برحيل هذا الشيخ العلم المعلم، وكأنها فقدت نبيا من الأنبياء كان فيها ميزان الهداية والرشاد.
وأنت اليوم إذا سألتني ما هي أمنيتك التي ترجوها مما مضى لأقولن لك: أمنيتي أن يعود بي الزمن لأحضر حلقة من درس الشيخ حسن أيوب رحمه الله، حيث العلم والفقه والبركة والمتعة ووجه يشع بالنور والهداية.
رحم الله الشيخ حسن أيوب.