الأحد أكتوبر 6, 2024
مقالات

حاتم سلامة يكتب: متى يسقط الرجال؟

مشاركة:

إذا أردت أن تقف على عقل رجل ومعدنه وخلقه، فانظر حاله ساعة الاختلاف معك، كيف يعاملك وكيف يلقاك، وكيف يحادثك؟

هل تلحظ تغيرا عليه واختلافا في إقباله عليك، هل مازال يؤانسك ويسامرك ويهش ويبش في وجهك، أم أن كل ذلك قد تبدد وحل محله سخط تعلن عنه ملامح وجهه؟!

أناس كثيرون تهابهم وتعظمهم وتعجب بهيآتهم وصورتهم، ثم يسقط كل هذا الطلاء الزائف وقت الاختلاف، لتظهر الحقيقة أمامك واضحة.. حقيقة النفس الصغيرة الهاوية الفارغة المستبدة التي لا تحترم رأي أحد ولا ترى رأيًا غير رأيها.

انظر.. فهناك أناس يسقط الود من قلوبهم، ويمزقون أواصر القربى، ودواعي الألفة بل يسوقهم الغي لتورق في قلوبهم ثمار الحقد والغل والكيد، وتفترش في نفوسهم بُسط الكراهية حينما يختلفون معك، حيث تعمى قلوبهم عن كل شيء، وهو نوع من داء الأثرة والأنانية، ونفوسهم الوضيعة التي لم تترب على احترام الآخر.

ومن هنا إذا أردت أن تختبر الرجل الكبير صاحب النفس الصافية الواعية، فعليك أن تشهده في مواطن الخلاف، هل يجافيك، هل يصادر رأيك ويلغيك، هل يحترم كلامك وإن فقد القناعة به؟

هل يقدر معنى الخلاف في تعدد رؤى الإنسان، أم أن التعالي لا يدعه ليدرك هذه المعاني.

ورحم الله الإمام محمد رشيد رضا فقد كان يقول دومًا بقاعدته الذهبية: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”

وكان شيخنا الأجل فضيلة الدكتور محمود عمارة رحمه الله يؤصل دائما لهذه الثقافة ويقول: نحن نقبل الاختلاف شريطة ألا يقود إلى الخلاف، ولشغله رحمه الله بهذه القضية، وضع كتابا جليل القدر تحت عنوان (من أجل حوار لا يفسد للود قضية)

وكان من أروع ما قرأت لبعض الشيوخ قوله: ” قد نختلف نعم، لكن يبقى العلم رحما بين أهله، ويبقى الحب ما بقي الأدب والرفق”

لقد كان الأستاذ العقاد يرى هذه الخصلة من أسمى ما يرصده من صفات الرجال وتقويمه لهم، حينما يتحدث عن العلماء والزعماء ممن عرفهم واختلط بهم.

كان ينظر إلى الرجل منهم كيف هو وقت الاختلاف وتباين وجهات النظر، فإن كان على ما يرتضيه من السمو والترفع، أدرك أن يليق به أن يكون كبيرا، وإن كان دون ذلك صغرت منزلته وسقط في عينه.

والعقاد العظيم كان يبحث عن سمات العظمة في هؤلاء الرجال الذين لا يصادرون رأي الآخرين ممن هم دونهم، أو من مرؤوسيهم، لأنها الدلالة على احترام الآخرين وتقدير عقولهم، بل وتقدير مكانة الاختلاف التي هي آية الرقي في التعامل.

انظر إليه وهو يتحدث عن الزعيم سعد زغلول فيقول: “وقد لازمت سعدا سنوات ووافقته كثيرا وخالفته كثيرا كما يعلم القراء، فلا اذكر يوما أنه طلب منى أو طلب من غيري أمامي أن نكتب في رأي بغير ما نراه وإنما كان أسلوبه في هذه الحالة أن يفتح باب المناقشة فيما يريد الكتابة فيه، فان خالفناه واقنعناه لم يطلب منا كتابة ولم يلمح إلى طلبها أقل تلميح، وكثيرا ما كان يتلطف فيقول: أنت جبار المنطق يا فلان وهذا هو اللقب الذي تفضل فأطلقه على كاتب هذه السطور.

وإن وافقناه وراينا رأيه قال: حبذا لو وقف القراء على جلية هذا الموضوع ، وهذا غاية ما كنا نسمع من طلبة الكتابة في موضوع من الموضوعات وكذلك لم يحدث قط أنه طلب إلينا الكف عن الكتابة في مسألة من المسائل ولو جلبت عليه الأزمات وأوقعت النزاع بينه وبين ذوى السلطان.”

ثم في موطن آخر يتحدث عن العلامة فريد وجدي وقد عمل معه في صحيفة الدستور، واحتك به ولازمه وخالطة، فكانت هذه الخلة من أكثر ما أعجب العقاد فيه حينما رأى نفسه محظوظًا لأنه عمل مع هذا الرائد الكبير، وتشرف بالاقتراب منه، فكان مما وصفه به: “إنه كان حرًا في فكره، وما خالفته فيه أثناء عملي معه أكثر مما وافقته عليه، ولكنه لم يغير كلمة واحدة كتبتها لمخالفة رأيه… كانت الدستور لسانًا ثانيًا للحزب الوطني، الذي كان موقفه معروفًا من سعد زغلول، وكنت أؤيد سعدًا وأرد على ناقديه في (الدستور)، فلم يمنع كلمة واحدة مما كتبته في هذا الموضوع”

وهنا نأتي إلى العقاد نفسه والذي كان كثير الخصومة شديد العراك، لنتساءل كيف كان مع كل ما كان فيه من شحناء ونزال؟ هل كان يبقى للود مكان في نفسه، هل كان يلاين أو يلاطف هؤلاء الذين كال لهم وكالوا له في يوم من الأيام؟

وهنا يجيبنا الشاعر الكبير (طاهر الجبلاوي) صديق العقاد في كتابه ذكرياتي مع العقاد فيقول: ” وقد كان العقاد كريما مع خصومه فلا يننى يده بعد انتهاء الجولة عن مصافحة خصمه في السياسة أو الأدب شأن الرياضي الأصيل … وقد رأينا في مراثيه أثراً لتلك الروح الطيبة التي يحمدها له عارفوه وقد اكتسب تقدير خصومه ومريديه.”

إننا بحاجة ماسة لهذه الثقافة التي تعني عظمة الرجال ورقي العقول وتحضر الإنسان.

Please follow and like us:
حاتم سلامة
كاتب وصحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *