أقلام حرة

حاتم سلامة يكتب: نُقاد أجلاف

من بلاء الساحة الأدبية أن تكتوي بنقاد أجلاف، لا يعرفون خطورة النقد وأدبياته وأصوله وأثره النفسي سلبا وإيجابا على التطور الأدبي والإبداعي ونموه لدى أي كاتب أو شاعر.

وفي الوقت الذي يتحمس الموهوب أن يطلعهم على عمله، مؤملا أن يستمع منهم إلى كلمة تحفيز وتشجيع ناهيك عن مدحه أو إطرائه، وتحسس أي بارقة أمل تزكي إبداعه الواعد، تأتي الضربة في جلافة صارمة، من قوم لا خبرة لهم بأصول النقد وأدبياته التي تشبه الدراية التربوية في تعامل الأستاذ مع تلاميذه.

بل الأدهى من هذا كله، أن يتمادى استئسادهم على الفريسة، فلا يكتفون بتقبيح عمله بصورة مهذبة، بل يعمدون إلى نوع من الهزء والسخرية بصاحب العمل، حتى يتحقق لهم المأمول فيلملم الموهوب أوراقه ويقصف قلمه ويحرم على نفسه الكتابة ويهجرها إلى غير رجعه.

بل المفزع أن أحدهم يتصور أنه لكي يقنع الناس أنه ناقد فذ، فلابد له من كسر وتحطيم الموهبة التي شاء القدر أن تأتي تحت ضرسه ليدهسها ويطحنها وبلا رحمة.

يمكن لك أن تنقد أي مبدع لا يعجبك قوله، ولكن بطريقة مهذبه فتعلمه وترشده، وتغرس فيه أملا بمحاولات أخرى مع كثير من الدراسة والتضلع.

لكن قوما ينتشون بهدم المواهب المتطلعة، وتحطيم آمالها، لهم أناس يلعنهم النقد الذي تشبثوا به.

وأنا هنا أريد التوضيح بمثلين في النقد أضربهما للقراء، حتى يعرفوا الفرق بين النقد البناء الموجه المعلم الرشيد، والنقد الهدام المحطم السخيف.

ومن عجائب القدر أن يكون المثلين بين قامتين من قامات الزمن العملاق، وهما العقاد وصاحبه المازني، ولا شك أنك تتوقع أن تكون القسوة والهدم من جانب العقاد، لما أشيع عنه من الصرامة والحدة، وأن النقد الهادئ البناء سيكون من جانب المازني الذي عرف بالفكاهة والطرافة.!

ولكن العكس هو الصحيح.!

فقد كان العقاد آية البناء والأمل والتوجيه، بينما كان المازني معولا حادا للهدم والتحطيم.

ولا أعرف كيف فعل ذلك وهو العليم، وحسي يخبرني أنه ربما تصرف هذا التصرف من باب النكتة والضحك والمرح والهزل الذي تطبع به.

كان الشاعر الكبير طاهر الجبلاوي في العشرين من عمره حينما خط ديوانه الأول، وقد تشرب أسلوب المحافظين، ووقع أسير اللفظ والديباجة، واستوحى كتاباته من دواوين شعراء العرب، ودراسة كتب اللغة والأدب القديم.

ولف شاعرنا على الأدباء والشعراء يعرض عليهم ديوانه، فامتدحه شوقي وحافظ، ولما تعرف على المازني ناولته الديوان، فقلب بعض صفحاته ثم زم شفتيه وهز رأسه !!

فقال الجبلاوي : لعل شعرى لم يعجبك ؟

قال : نعم ! !

قال: وأدهشتني تلك البادرة وكنت قد سمعت ثناء على شعرى من كثيرين، ومنهم كبار الشعراء والأدباء، وقد قدمنى شوقي وحافظ بأبيات أعتز بها.

لم أكد أصدق أذني ولكنى عدث فقلت في لهجة أشبه بالتحدى :

إذن فانقده ! !

قال وقد ابتسم ابتسامة عذبة: لا يستحق النقد.

فزادت دهشتي واشتد ألمى لهذه المفاجأة التي لم أكن أتوقعها، ولكن المازني عاود الابتسام وكأنه أراد أن يلف كلمته الجارحة بضمادة أو ضمادتين ثم

قدمنى لصديقه العقاد.

إن فعل المازني كان كفيلا أن يصيب الشاعر الناشئ بعقدة مذمنة، يمكن معها أن يترك الشعر قاطبة، لولا أن منحه الشعراء الكبار رخصة وإجازة بروعة شعره.

أما العقاد فكان له شأن آخر وأسلوب مغاير.

فماذا فعل العقاد وماذا كان منه؟

كان العقاد يجلس في الحديقة يتناول فنجانا

من القهوة، ويقلب صفحات كتاب في يده، فأقبل عليه شاعرنا ووجدها فرصة سائحة في هذه الخلوة، فعرض عليه طاهر ديوانه المخطوط، فقلب العقاد بضع صفحات من الديوان وقرأ منه أبياتاً ثم التفت إليه وقال بلهجة جادة:

إسمع ياصاحبي إن ديوانك هو خير رد على قوم يحسبون الديباجة الحسنة كل شيء في الشعر، فقد بلغت فى ديباجتك وجودة نظمك ما بلغوه، ولكن الشعر شيء آخر، الشعر أن تحس وتعبر تعبيرا جميلا عما تحس، أنت تحاكي الشعراء المتقدمين الذين قرأت لهم، والشعر الصحيح غير المحاكاة، وأنا أنصحك أن تقرأ وأن تضيف إلى محصولك في الأدب العربى محصولا آخر من الأدب الأجنبي، وإياك أن تعبر عن شيء لاتحسه، فتكون كالذي يقدم شيكا بغير رصيد .

إن الإحساس الشعرى هو الرصيد الدائم التجدد والتعبير عنه هو الشيك الذي تقدمه للقراء .

ولم يكتف العقاد بهذه النصيحة فأشار على الشاعر الواعد بقراءة بعض الكتب.

يقول الجبلاوي: سمعت هذا الحديث من العقاد وكأنى أفيق من سبات عميق، فقد كشف عنى غشاء سميكا ودلنى على النهج الصحيح الذي كان ينقصى. وعدت إلى نفسى فوجدت بها ميلا كبيرا إلى تقبل هذه الآراء والعمل بها.

ويعترف الجبلاوي بأن المازني كان على حق، ولكنه كان حقاً سلبياً مميتاً.

وكان العقاد على حق، ولكنه كان حقاً إيجابياً مفيداً . و انصرف الشاعر وفى رأسه كما يقول: أخيلة كثيرة أشاعها هذا اللقاء الذي غير مجرى حياته، وصرف نفسه عن كل من عرف من الأدباء الذين كان يلقاهم ويغشى مجالهم بالقاهرة.

لقد كان نقد العقاد عليما بصيرا بموطن الداء والعلة في شعر الجبلاوي، وقدم له الدواء الشافي الذي أنار بصيرته، ولم يكن نقده نقدا استعلائيا مدمرا محتجا أنه يعبر عن رأيه ومن حقه ذلك.. لأنه يدرك أن النقد أدب وتعليم وتوجيه، وهو ما غفل عنه المازني الذي أراد أن يميت الشعر في الشاعر الموهوب.

فهل نتعلم من العقاد، أن نبني ونعلم ونوجه ونحيي الأمل في نفوس المتطلعين؟!

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights