حاتم سلامة يكتب: هل كان العقاد جبانًا؟
هل سقط العقاد برحلة الحوف؟
يمكن لي أن أقول: إن أغلب الناشئين من الجيل الماضي كانوا يعرفون عظمة هذا الاسم ومكانة صاحبه، وكان السبب المباشر في هذا حينما قررت وزارة التربية والتعليم في مناهج المرحلة الثانوية، كتابًا كان غلافه باللون الأخضر يحمل اسم عبقرية عمر لمؤلفه عباس محمود العقاد.
التقيت بكثير من أبناء هذا الجيل، وكنا نتحدث عن هذا الكتاب الذي درسوه في هذه المرحلة، ورأيت منهم من كان يحفظه، ومنهم من حدثني أنه كان يهيم بالقراءة فيه، وغيرهم أنه عشق العقاد من هذا الكتاب، وآخر من المتدينين من أثنى على ما أظهره هذا الكتاب من شخصية أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكان آخرهم صديقي المهندس الدكتور بهاء خليل الذي حكي لي عن صحبته الأثيرة لهذا الكتاب حينما كان طالبا، وكيف أنه حلله على حسب تعبيره، ويقصد أنه فصله تفصيلا من عمق ما تكيف وتواءم معه.
بل كان منهم من جعل الكتاب من أعظم المعالم والدلائل على عبقرية الأستاذ العقاد.
وكان منهم كذلك من شهد بصعوبته.
ومن هنا نستطيع القول: إن وزارة التربية والتعليم وقتها قد خدمت أدب العقاد الذي يستحق بجدارة أن يكون رائد جيل وأستاذ زمن، بل خدمت هذه الأجيال حينما ربت عقولها وذائقتها على تراث هذا العملاق، وهو المستوى العلمي الفائق مما لا نجده اليوم مع طلاب المدارس الذين صاروا يدرسون سميحة أيوب بدلا من العقاد.!
كنت أتذكر بشدة في طفولتي هذا الكتاب متداولا في أركان البيت، إذ كان لي أخ وأخت في سِن دراسي واحد، بخلاف أنني وجدت ذات الكتاب بشكل مغاير وطبعة مختلفة في كتب والدي رحمه الله.
فكان هذا الكتاب من أوائل ما عرفت من الكتب في حياتي، وقبل أن أعرف أنني سأكون من مدمني القراءة.
ولعل هذا الكتاب تحديدًا يرتبط بمناسبة رهيبة وخطيرة في حياة الأستاذ العقاد، وله معه ذكرى تختلف عن أي كتاب في حياته، ومن ثم اختلفت الروح التي ألف بها عبقرية عمر، عن الروح الواحدة التي ألف بها كل كتبه.. وهو ما نبينه الان ونظهره.
في يوم من الأيام وفي مرحلة الصبا كنت أجلس أنا وأخي مع صديق له متفيهق، أو متحذلق، ومن مدعي الثقافة، إذ سمعته يقول: إن العقاد هو المفكر الجبان، لأنه فر إلى السودان خوفًا من هتلر الذي أوشك أن يهزم الإنجليز ويدخل مصر.
وذلك طبعًا لأن العقاد هاجم هتلر والنازية في كتابه (هتلر في الميزان) وكان أول من تنبأ بسقوطه.
ومن يومها وهذه الجملة الغريبة العجيبة التي حاولت هدم صورة زاهية لاسم رجل قد نال من نفسي أعظم منال، حينما رأيت والدي يثني عليه ويسمو بكتبه.
ومرت الأيام وكبرت، وقرأت وعرفت، فتبين لي أن الحال لم يكن حال العقاد وحده، فإن الهروب والنجاة بالنفس من بطش كل جبار، قد كان حال كبار العلماء وفعله الزعماء والوجهاء، كسعيد بن جبير وسيدنا موسى عليه السلام، وعبد الله النديم، وغيرهم وغيرهم مما تحفل به كتب السير والتاريخ.
الخوف إذن في هذا الموطن ليس عيبا أو سبة وعارًا، وهو العنوان الذي دعاني لأكتب مقالا يدافع عن العقاد وينفي عنه الجبن، وهو الكاتب الذي ما عهدناه في مواقفه وحياته إلا شجاعا باسلا.
وقريبا كانت هذه القصة قد وقعت أمامي، ورأيت فيما قرأته كلاما جديدًا عنها مما هو جدير أن نوضحه اليوم ونبرزه، لأنه كان أكثر بيانا في الدفاع عن العقاد وكشفا لسر الرحلة المتهمة، ولا يكتفي فقط بنفي صفة الجبن عنه، وإنما بنفي ما حاولنا أن نثبته له ونتبسط فيه ونجد له معه العذر وهو الهروب المحمود والخوف المشروع.
في حوار له وقد لاك هذه القضية العقاد بنفسه وكأنه حينما أوضح حاله وكشف عن دخيلة نفسه، كأنما يرد على من حاولوا اتهامه بالجبن من هؤلاء الصعاليك.
يذكر صديقه الشاعر طاهر الجبلاوي أمر فراره إلى السودان بعدما أعلنت الإذاعة النازية وأنذرت العقاد وقال مذيعها: إننا سنشنق العقاد في ميدان عام، وقد أعددنا لشنقه حبلا أطول منه.
فلما وصلت جيوش هتلر إلى حدود الإسكندرية هيأ نفسه للسفر وقال لصديقه: إنني لا أخشى الموت، بل إنني أرحب به إذا دخل النازيون مصر، ولكن كل ما أخشاه أن يمثل بي.!
وهذا دافع تسوقه إليه الكرامة.. لا حب السلامة”
الموت إذن لم يكن يخشاه أو يشغل باله وإنما كان يخشى ويخاف أن يمثل به تمثيلا تذهب معه هيبته وكرامته التي عاش لها وعشق وجودها ودافع عن كيانها.
لم يكن له أبدًا أن يقبل أن تهتز بهذه الإهانة، شخصية العقاد العملاق، كما يراها محبوه وكما يراها هو من نفسه، حتى كان القرار بالرحيل، نجاة بهذه الصورة واحتفاء بالحفاظ على هذه الكرامة.
وهاجر العقاد إلى السودان واستقبله شعبها واحتفى به مثقفوها.
وهناك في أرض السودان، أرض الهجرة لهذا الخائف المترقب، أخذ يؤلف أعظم كتبه التي جلبت له الجماهيرية الضخمة، وهو كتاب عبقرية عمر، والذي كان قد بدأ الصفحات الأولى منه في مصر ولم يكمل، إذ رحل سريعا حتى دون أن يصحب معه ما كتب فيه من بدايات وبعض المراجع، وقد شاء الله أن يكتب الكتاب في أرض المهجر، وبروح كما قلنا غير التي ألفها العقاد نفسَه من نفسِه.
وها هو يقول عنه: “تم تأليف هذا الكتاب في أحوال عجيبة، هي أحوال بأس وخطر، فلا غرابة بينها وبين موضوع الكتاب الذي أدرته عليه، لأننا لا نتكلم عن عمر بن الخطاب إلا إذا وجدناه على مقربة من البأس والخطر في آن”