حاتم سلامة يكتب: يا جوده.. العملاق لا يحسد ولا ينافق
سبحان الله وكأنه لا يكفي أن يهرف الحاقدون بالزور ليطمسوا الحقائق والمعارف، حتى يطلع علينا من يلفحنا بضلال التأويل.
منذ زمن كبير وأنا أقول: من الخطر الكبير أن يتقلد الصحفي عمودا فكريا يكتب فيه، ويُطل منه على الناس، وهو جاهل لا رصيد له من الثقافة والمعرفة والرؤى، فليس معنى أنه صار يمسك قلمًا ويكتب، أن يتيح ذلك له أن يخاطب الناس من عمود صحفي بلا خبرة ولا وعي ولا تجربة، ولا حسن تحليل واستنباط، ولا ثقافة قوية عميقة.
ولعل هذا ما استعدته في خيالي حينما قرأت مقالة الصحفي الشهير سليمان جوده المنشور بالمصري اليوم، منذ ساعات، والذي يدلل على ظلم فادح وغفلة كبيرة عن فهم طبيعة أعظم مفكر عرفته مصر في العصر الحديث، حتى أن هذا الطفح تخطى حدوده وأوغل في مداه، حينما اتهم القامة السامقة بأمور وأشياء وصفات يخجل منها كل مثقف واعي.
الأستاذ سليمان جودة نشر مقاله تحت عنوان (خرزة على باب العميد) متهمًا العملاق العقاد بأنه حسود حقود، لم يسلم طه حسين من عينه وحسده، ولا شك أن هذا هراء رجل لا يعرف شيئا من الحقيقة، أو أنه يعطي انطباعا بسطحية مفرطة في فهم المواقف والأحداث، بل يشير بوضح صاخب، أن الرجل لا يعرف ما يكون عباس العقاد، وما معنى عباس العقاد إذا قورن بمن يتهمه بهم أنه تجنى عليهم بعين الحسد.!
قال جودة داخل المقال مما يستدعي الأسف والأسى:” لا تفسير لما جرى مع طه حسين في مماته وفيما بعد مماته، إلا أن عين العقاد قد أصابته، فلم يهنأ بشيء طوال ٥٠ سنة!.
كان العقاد يرى أن عميد الأدب العربى صاحب حظوة عند الحكومات المتعاقبة، وكان يحسده على ذلك، وكان يقول إن هذه الحكومات نفسها كانت كلما فكرت في محاربة الشيوعية نشرت مؤلفاته هو، فإذا قررت ترشيح أحد لجائزة كبيرة رشحت طه حسين.
ولم يكن هذا صحيحًا على طول الخط، ولكنه كان صحيحًا بنسبة معينة، وربما كان السبب فى صحته أن طه حسين كان أكثر مرونة من العقاد، وكان بالتالي يستطيع أن يستوعب ما حوله مما يجرى، وكان العقاد على العكس.. فلقد جلس يومًا فى بيته ينتظر ناشرًا جاء يوقّع معه عقد نشر كتاب، فلما تأخر الناشر خمس دقائق قام لينام، وأغلق الباب، ورفض الرد على تليفون الناشر.
قد يراه بعضنا على حق فيما فعل لأنه احترم الموعد، ولم يحترمه الناشر، ولأنه يقدر قيمة الوقت، ولا يقدرها الناشر، ولكن الموقف لا يخلو على بعضه من صرامة اشتهر بها، ولا فرق فى ذلك عنده بين ناشر وغير ناشر.. والذين قرأوا للاثنين سوف يجدون الصرامة واضحة فى عبارة العقاد وهو يكتب، وسوف يجدون المرونة ظاهرة في عبارة طه حسين في المقابل وهو يُملى، وهذا ما تجده فى «الأيام» مثلًا، إذا قرأتها، ثم قرأت من بعدها كتاب «سارة» للعقاد.
ولكن لا شك أن عينه أصابت طه حسين من حيث لا يدرى، فمات فى عز حرب أكتوبر، وكانت الدنيا كلها منشغلة بالحرب وبالنصر، ولم يكن الانشغال تقليلًا من شأن عميد الأدب طبعًا، ولكن أنباء النصر الأكبر كانت كفيلة فى حد ذاتها بالتغطية على كل ما عداها، ولم يكن طه حسين الذى عاش يملأ الدنيا ويشغل الناس يتوقع أن يأتي في مماته ما يصرف الاهتمام عنه وعن كل ما عدا الحرب والنصر.
فليرحم الله العميد، الذى لم يتحسب لعين العقاد، ولم يضع خرزة زرقاء على باب فيلا «راماتان»، حيث عاش يسكن فى الهرم!.”
وأمام هذا التجني الفاجع، لا أعرف هل أضحك أم أبكي، لكنني أتعجب من رجل لم يقرأ التاريخ جيدا، ولم يعرف حقيقة الرجل الجبار، الذي كان يرى نفسه أكبر من المناصب والكراسي، بل أكبر من الحكومات نفسها، وكيف لا وقد كان ندا لها وجلادا، وفي الوقت الذي كان الجميع فيه يصمتون، كان العقاد يمتطي صهوة قلمه، ليهاجم الوزارة التي لا تحترم إرادة الشعب ومصالحه، حتى يهدمها هدمًا ويحيلها إلى خبر كان، كما فعل مع وزارة توفيق نسيم، بل كان حتى يقف أمام رئيس الوزراء ليجعل منه أضحوكة يستخف بها الناس ويسخرون كما فعل مع الرجل الحديدي محمد محمود باشا الذي هدد الشعب يوما فهابه الجميع إلا العقاد، الذي ألب عليه الدنيا بمقالات من نار، وتعبيرات قلم كأنها الصواعق النازلة، ليجعل من الرجل المخيف الطاغي، هزأة في أعين الجماهير.
ألا يتذكر الأستاذ جودة تلك الأشهر التسعة التي قضاها العقاد في السجن لأنه أهان الذات الملكية تحت قبة البرلمان، وقال قولته الخالدة: “إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه”.
إن رجلا لا يهاب ملكا ولا وزيرا ولا حكومة، أيمكن له أن يحسد هذا الضعيف العيي على شيء؟ ان مقام العقاد أسمى من ذلك يا رجل.!
عن أي حسد يتكلم الأستاذ جودة، ألا يعلم أن العقاد لو كان من عباد المناصب كما كان طه، لارتقى أرفع المناصب السياسية قبل الثقافية.
ألم يعلم الأستاذ جودة أن الملك بجلاله وعظيم مقامه زاره في بيته وعرض عليه الباشوية ليشتريه ويضمه إلى صفه، فقابله العقاد بالرفض؟
وهنا بيت القصيد.. فليست القضية كما ذهب إليها جوده من الفرق بين الرجل المرن، والرجل الصلب، ولكنه الفرق بين الرجل المنافق المداهن، وبين الرجل صاحب المبادئ الذي لا يمكن أن يبيع قلمه لأحد، وهو البعد الذي عميت عين جوده أن تلمحه في سيرة العقاد، فراح يتهم الرجل بالحقد على غريمه وحسده على مكانته.
ونقول لجوده: من العيب أن نفسر النفاق علي أنه مرونة، ومن الخزي أن يُفسر احترام المبادئ والاعتزاز بالذات، على أنه صلابة وصعوبة في التعامل مع الناس، وكأن صاحبه إنسان متعنت غير مريح.. لكن كان العقاد يعف المناصب ونفاق الكبار، حتى لا يؤثر أي منهم على كلمته ورأيه وحريته التي كانت أعز عليه من الدنيا وما فيها.
والجيل الذي يعرف العقاد، اليوم، يخطئ بقوة حينما يتصور العقاد كاتبًا أو أديبًا وحده، وقد جهل قبل ذلك أن العقاد زعيمًا من زعماء مصر، فقد لعب دورًا كبيرًا ومحوريا في سياستها ومسارات الحكم فيها.. وخيرا فعل الكاتب (راسم الجمال) حينما ألف كتابا تحت عنوان العقاد زعيمًا، ليعبر عن الجانب الفخم الذي غفلناه من حياة الرجل.
وهذا الكاتب وأترابه يعرفون معنى العقاد.. أما أن يأتي رجل ليكتب في صحيفة سيارة.. إن العقاد كان يحسد ويغار، فهذا رجل لا يعرف قدر رجل كان استثنائيًا في حياة مصر.