منذ نشأتها، ارتبطت القاهرة بالنار كما ارتبطت بالحياة. مدينة لم تهدأ يومًا، من صخبها اليومي إلى نيرانها التي اشتعلت في لحظات مفصلية من التاريخ المصري، حاملة معها تساؤلاتٍ لا تنتهي: هل كانت هذه الحرائق مجرد حوادث عرضية؟ أم أن خلف الدخان المتصاعد دائمًا فاعل خفيّ، أو مؤشرات لاضطرابات أعمق في البنية السياسية والاجتماعية للبلاد؟
حريق الفسطاط.. النيران الأولى في قلب مصر الإسلامية
يعود أول حريق كبير في القاهرة – أو ما يمكن اعتباره “نواة القاهرة” – إلى سنة 1168م حين أمر الوزير شاور بحرق مدينة الفسطاط بالكامل، في خطوة مثيرة لا تزال محل جدل تاريخي حتى اليوم. الهدف، كما روى المؤرخون، كان منع الصليبيين من السيطرة على المدينة أثناء غزوهم لمصر. تحولت المدينة إلى رماد خلال أيام، ونُزح الآلاف، وأُجبر السكان على مغادرة بيوتهم أو حرقها بأيديهم، ليغدو الحريق الأول في سلسلة من النيران السياسية التي لم تنتهِ.
حريق القاهرة الكبرى 1952.. النيران التي سبقت الثورة
لا يمكن الحديث عن حرائق القاهرة دون التوقف عند يوم 26 يناير 1952، حين اشتعلت العاصمة فيما أصبح يعرف بـ”حريق القاهرة”، أو “الحريق الغامض” الذي التهم قلب المدينة في غضون ساعات قليلة، ودمّر أكثر من 700 منشأة ما بين فنادق، ومحلات، وسينمات، ومقاهي، ومصارف. من شارع فؤاد وحتى شارع عماد الدين، ومن ميدان الأوبرا إلى وسط البلد، كانت النيران تلتهم كل شيء بلا رادع.
ورغم مرور أكثر من سبعين عامًا، لم يُعرف حتى اليوم من المسؤول الحقيقي عن الحريق. التحقيقات التي أُجريت حينها لم تصل إلى نتيجة قاطعة، مما فتح المجال أمام نظريات المؤامرة، وربط كثيرون بين الحريق وثورة يوليو التي وقعت بعدها بشهور قليلة. البعض يرى أن ما حدث كان تمهيدًا لانهيار النظام الملكي، بينما يشير آخرون إلى أنه كان نتيجة انفجار شعبي غير منضبط ردًا على مذبحة الإسماعيلية التي وقعت قبل يوم واحد فقط.
حرائق الوزارات 2011.. النيران في ثوب الثورة
في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، عادت النيران لتأكل مباني الدولة. اشتعلت الحرائق في مجمع التحرير، ووزارة الداخلية، ومبنى الحزب الوطني الديمقراطي المطل على النيل، وهو المبنى الذي كان يرمز لعقود من الحكم الفردي والفساد السياسي. لم يُحدد فاعل واضح، ووسط الفوضى التي صاحبت الثورة، ضاعت الأدلة، وظهرت مجددًا تساؤلات حول ما إذا كانت هذه النيران بفعل فاعل مقصود أم نتيجة انهيار المنظومة الأمنية في البلاد.
اللافت أن معظم تلك المباني كانت تمثل السلطة في أعين الشعب، وكأن النيران هذه المرة لم تكن مجرد حريق، بل إعلان قطيعة مع مرحلة سياسية كاملة.
حرائق المتاحف والكنائس والكنوز الأثرية.. ضرب للهوية؟
بين عامي 2012 و2015، شهدت القاهرة سلسلة من الحرائق الغامضة في أماكن حساسة ثقافيًا وتاريخيًا. اندلع حريق في متحف الفن الإسلامي عام 2014 بعد انفجار إرهابي استهدف مديرية أمن القاهرة المجاورة. كما اشتعلت النيران في كنيسة مارجرجس بحدائق القبة، وفي كنائس أخرى بصعيد مصر، ما أثار مخاوف من استهداف مكوّنات الهوية المصرية وموروثها الثقافي والديني.
ورغم أن بعض هذه الحرائق كان بفعل تفجيرات إرهابية، فإن التحقيقات كثيرًا ما توقفت دون محاسبة واضحة، وهو ما أبقى على حالة الشك في أذهان الناس: هل كانت كلها بفعل الجماعات المتطرفة؟ أم أن هناك جهات استفادت من تغييب رموز وطنية وثقافية معينة؟
حرائق الأسواق والمصانع.. الاقتصاد في مرمى اللهب
على مدى العقدين الأخيرين، تكررت الحرائق في الأسواق الشعبية مثل وكالة البلح، والعتبة، وروض الفرج، إضافة إلى حرائق متكررة في مصانع البدرشين، ومدينة السلام، والعاشر من رمضان. في معظم الأحيان، تخرج بيانات رسمية تؤكد أن “ماسًا كهربائيًا” هو السبب، لكن توقيت هذه الحرائق – لا سيما عندما تحدث قبيل حملات رقابية أو خلال نزاعات على ملكية الأرض – يطرح تساؤلات حول خلفيات اقتصادية أو جنائية لهذه الحوادث.
في مايو 2018 مثلًا، اندلع حريق هائل في سوق التوفيقية الشهير بقطع غيار السيارات، مما أدى لخسائر بملايين الجنيهات. البعض ربط بين الحريق وبين صراع على ملكية السوق، خصوصًا بعد صدور قرارات تخص إعادة تنظيم المكان.
هل من نمط وراء اللهب؟
عبر تتبع هذه الحرائق نجد نمطًا مشتركًا: النيران لا تشتعل عبثًا في القاهرة، بل عادة ما تكون مؤشرا على تصدّع داخلي أو حالة من الاحتقان، سواء سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا. وفي كثير من الحالات، تنشب النيران في لحظات التوتر القصوى، وكأنها تعبير عن مرحلة انتقالية لا تمر إلا بالاحتراق.
البعض يرى أن هذه الحرائق ما هي إلا مرايا للانفجار النفسي والضغوطات التي تعيشها المدينة. فالقاهرة، بثقلها الديموغرافي والسياسي والاقتصادي، هي أكثر من مجرد عاصمة، إنها تعبير عن الحالة المصرية بأكملها. وعندما تشتعل، فذلك يعني أن شيئًا ما يتحرك – أو ينهار – في عمق المجتمع.
خاتمة: هل القاهرة مُدانة بالحريق؟
هل كُتب على القاهرة أن تحترق كلما اقتربت من مفترق طرق؟ هل أصبحت النيران لغةً للتغيير حين تفشل السياسة؟ أم أن الإهمال والفوضى وضعف البنية التحتية هو السبب الحقيقي لكل هذا اللهيب؟
الجواب ليس بسيطًا، لكنه بالتأكيد لا يقف عند حدود “ماس كهربائي”. فالنار التي تأكل الحجر أحيانًا ما تكون قد اشتعلت في النفوس أولًا. وفي مدينة لا تنام مثل القاهرة، تبقى شرارة واحدة كافية لتكتب فصلًا جديدًا من الحريق.. أو من التاريخ.