بحوث ودراسات

حرب غزة ومقياس النصر والهزيمة في فقه السياسة الشرعية

بقلم: عبد المنعم منيب

يدور الكثير من النقاش والجدل حول حرب طوفان الأقصى التي اندلعت بين المقاومة الفلسطينية في غزة من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى منذ 7 أكتوبر 2023 والمستمرة حتى الآن هل هذه الحرب تمثل نصرا أم هزيمة للمقاومة الفلسطينية؟

المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس وذراعها العسكري كتائب عز الدين القسام ومعها سرايا القدس الذراع العسكري لتنظيم الجهاد الاسلامي وبقية منظمات المقاومة مثل شهداء الاقصى والوية الناصر صلاح الدين وغيرها كبدت العدو الصهيوني خسائر كبيرة لكن العدو اثخن المدنيين قتلا في قطاع غزة ووصل عدد الشهداء على اقل تقدير اكثر من 40 الف اكثر من نصفهم نساء واطفال وزاد عدد المصابين عن 80 الفا اغلبهم صاروا معوقين بقطع الاطراف.

عندما يتكلم العوام عن النصر أو الهزيمة فعادة يقيسون الهزيمة بكثرة الخسائر والنصر بقلة الخسائر، ولكي نفهم هذه القضية فلابد من توضيح مفهوم الهزيمة والنصر في فقه السياسة الشرعية، لكن لابد أولا أن نعرف ما هي الحرب وما هي أهدافها؟؟

إن جوهر الحرب يدور حول إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا وذلك عبر أعمال القوة والعنف ([1])، ولا شك أن الهدف الأول للحرب هو هدفها السياسي ([2]) والذي عادة ما يتحقق بإخضاع إرادة العدو ماديا ومعنويا ([3])، وكما يقول كارل فون كلاوزفيتز-محقا-: “الحرب ليست من عمل السياسة فقط بل إنها أداة سياسية حقيقية، إنها استمرار للنشاط السياسي بوسائل أخرى.”([4]) أ.هـ

إن الإخضاع الكامل لإرادة العدو ربما كان ممكنا في الماضي ولكن التطور في الاستراتيجيات العسكرية و التقدم الفائق في صناعة الأسلحة المدمرة جعلت هذا الإخضاع الكامل لإرادة العدو حاليا أمرا شبه مستحيل ([5]) وهذا دفع بعض المنظرين الاستراتيجيين إلى اقتراح تعريف آخر لهدف الصراع وهو: “تليين إرادة الآخر حتى ينتهي الصراع بما يحقق الأهداف.”([6]) أ.هـ، فصار الأمر “تليين إرادة الخصم” بدلا من “إخضاع إرادته اخضاعا كاملا”.

ويتضح المفهوم الإسلامي للحرب في قوله تعالى: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا} ([7]) فالجهاد يكف بأس الكافرين أي يكسر إرادتهم التي تستهدف إيذاء المؤمنين، ومفهوم في سبيل الله أوضحه الحديث النبوي الصحيح عندما قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا ‌يقاتل غضبا، ويقاتل ‌حمية، فقال: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله”([8]).

وأهداف الحرب إسلاميا تشمل الدفاع عن النفس والمال والأهل كما أوضح الحديث النبوي إذ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد ‌أخذ ‌مالي؟ قال: “فلا تعطه مالك”. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: “قاتله” قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: “فأنت شهيد” قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: “هو في النار”([9]).

 فهذه الآية والأحاديث السابقة توضح مفهوم القتال وأبرز أهدافه في الإسلام باختصار.

 فالحرب تكون سعيا لجعل كلمة الله هي العليا أو للدفاع عن ما تملك وإنما تتحقق هذه الأهداف عبر ترويض إرادة الخصم أو كسر ارادته بالكلية.

وهكذا فالخسارة ليست مانعا من الجهاد ففي الحديث المذكور آنفا قال الرجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أرأيت إن قتلني» قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أنت شهيد» ولم يقل أنت خاسر ولا قال إن رأيته سيقتلك فلا تقاتله.

و نلاحظ أن غزوة بدر والتي وصفها القرآن بأنها يوم الفرقان كما أنها أهم معركة في تاريخ الإسلام فهذه المعركة استشهد فيها من الصحابة ثلاثون صحابيا وهذا العدد يمثل 10% من جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينها، بينما قُتل من الكفار 70 كافرا وهذا العدد يمثل 7% فقط من جيش قريش في غزوة بدر، وهذا اذا قسناه بمقاييس العوام الذين يقيسون النصر والهزيمة بالخسائر المادية أو البشرية لقلنا أن النبي صلى الله عليه وآله سلم انهزم جيشُه في بدر بينما الكفار انتصروا في بدر لأن جيش النبي صلى الله عليه وآله سلم فقد 10% من مقاتليه كشهداء بينما جيش الكفار فقدوا 7% فقط من مقاتليهم صرعى.

ولكن لا يقول عاقل هذا الكلام بل حتى كفار قريش أنفسهم لم يقولوا هذا بل أعلنوا أكثر من مرة أنهم انهزموا في بدر، لأن مقياس النصر والهزيمة هو الانهزام المعنوي للخصم وانكسار إرادته، والذي حدث أن قريش انكسرت إرادتها وانهزمت ولذلك فقد واعدوا النبي صلى الله عليه وآله سلم للحرب في العام التالي ليردوا على هذه الهزيمة.

ومن هنا لو طبقنا هذا المعيار على حرب طوفان الأقصى فالحرب لم تنته حتى نسارع ونطلق عليها حكما بنصر “فريق ما” أو هزيمته وإنما سيكون مقياس النصر والهزيمة هو حسبما تتحقق النتائج، فبحسب النتائج نقول من انتصر ومن انهزم فلو تمكنت إسرائيل من أن تستمر متمسكة بمواقع رئيسية تهيمن بها على أرض غزة سياسيا وعسكريا وتظل على ذلك بشكل نهائي، لو نجحت في هذا مع استبعاد المقاومة من غزة او سحق المقاومة بالكامل داخل غزة بشكل أو بآخر بنمط نهائي وليس بنمط احتلال عابر يزول كما زالت أمريكا من العراق وأفغانستان، فلو نجحت إسرائيل في ذلك كله لقلنا إنها انتصرت أما لو انسحبت من غزة وأطلقت سراح المعتقلين الفلسطينيين من سجونها ورفعت الحصار عن غزة فحينئذ سنقول إن إسرائيل قد انهزمت.

 ولذلك فإن إسرائيل ترفض حتى الآن إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين لديها وترفض الانسحاب من غزة وترفض فك الحصار عن غزة لأنها لو فعلت هذه الأمور فإنها إنما تعلن هزيمتها، ولا شك أنها ستضطر لذلك في النهاية لأنها لن تحصل على أسراها لدى المقاومة ولن توقف نزيف قواتها ونزيف اقتصادها الا بإيقاف هذه الحرب والنزول على إرادة المقاومة.

وإذ ثبت أن فداحة الخسائر وحدها ليست هي معيار النصر أو الهزيمة فإن هناك جدل آخر مثار منذ اندلاع حرب طوفان الأقصى متعلق بالخسائر أيضا حيث تتردد أطروحة أنه يجب ويتحتم على المقاومة أن توقف الحرب لوقف الخسائر المتمثلة في مقتل المدنيين من النساء والأطفال وهدم مرافق ومنازل غزة وتعتبر هذه الأطروحة أن المقاومة الفلسطينية هي المتسبب الحقيقي في قتل كل هؤلاء المدنيين والمتسبب الحقيقي في هدم كل مرافق غزة وبنيتها التحتية والصحية والتعليمية والمدنية لأنها لو توقفت عن مقاومة الاحتلال الصهيوني لتوقف الاحتلال عن العدوان، ويرد على هذه الحجة حجج دامغة كثيرة، منها أن هذه الأطروحة هي أطروحة الكيان الصهيوني أصلا فهو أطلقها من البداية وما يزال يرددها حتى الآن، ومنها أنها من مقولات المنافقين زمن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال الله تعالى: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} ([10]).

ولكن هناك سؤال جدي وعملي بشأن الفكر العسكري الإسلامي وهو هل تصاعد الخسائر في الصف الإسلامي الناتجة عن الحرب يجب أن تدفع صانع القرار إلى وقف ضغطه العسكري على العدو؟

والإجابة تأتينا من فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقب خسارته 70 شهيدا في غزوة أحد من كبار وخيار الصحابة بما فيهم عمه حمزة (رضي الله عنه) وكان هؤلاء الـ70 شهيدا يمثلون 10% من جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحد، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشية هزيمة وخسائر غزوة أحد؟

لقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن المشركين يفكرون في استثمار نصرهم على المسلمين في أحد عبر الهجوم على المدينة المنورة فندب المسلمين إلى مطاردة جيش قريش ولم يأذن لأحد بالمشاركة في المطاردة سوى من حضر غزوة أحد، فخرج الجيش المسلم بما في ذلك المصابين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إلى ‌حمراء ‌الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، وأقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة فأنزل الله تعالي قوله:{الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}([11])، وأنزل الله تعالى حينها: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لايرجون}([12]).

وهكذا فإن خسارة 10% من الجيش غير الإصابات لم تمنع النبي القائد صلى الله عليه وآله وسلم من الاستمرار في الجهاد ليمنع وقوع المسلمين تحت نير احتلال العدو.

وبشكل عام فالقرآن أوضح حقيقة وأبعاد قضية الخسائر الناتجة عن الجهاد في سبيل الله كما في الآيات السابقة وكذلك في قوله سبحانه: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} ([13]) وقوله تعالى:{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين ونحن نتربص أن يصبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون}([14]).

فالقضية ليست قضية أشخاص إنما هى قضية صراع بين الحق والباطل قد لا تنتصر قضيتك فى حياتك ولكنها تنتصر بعد وفاتك، فشهداء المسلمين فى بدر لم يروا فتح مكة وشهداء أحد لم يروا فتوحات بلاد فارس والروم والأندلس والقسطنطينية إنها مسيرة طويلة للصراع بين الحق والباطل.

([1]) راجع: كارل فون كلاوزفيتز، الوجيز في الحرب، ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي، ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1988، الطبعة الثانية، ص 74 وما بعدها.. وأيضا: كارل فون كلاوزفيتز، عن الحرب، ترجمة سليم شاكر الإمامي، ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1997، الطبعة الأولى، ص 103 وما بعدها.

([2]) راجع: كارل فون كلاوزفيتز، عن الحرب، م.س.ذ، ص 800 وما بعدها.

([3]) راجع: محمود شيت خطاب، إرادة القتال في الجهاد الإسلامي، ط دار الفكر، القاهرة 1973، الطبعة الثانية، ص 26.

([4]) كارل فون كلاوزفيتز، عن الحرب، م.س.ذ، ص 121.

([5]) ولنتأمل هزيمة الولايات المتحدة وانسحابها من فيتنام وهزيمة الاتحاد السوفيتي وانسحابه من أفغانستان وأخيرا هزيمة الولايات المتحدة وانسحابها من أفغانستان، وذلك كله على سبيل المثال لا الحصر.

([6]) انظر: أمين هويدي، الأمن العربي المستباح، دار الموقف العربي، القاهرة، بدون تاريخ، ص 14.

([7]) سورة النساء آية 84

([8]) متفق عليه، وفي رواية: “‌يقاتل شجاعة، ويقاتل ‌حمية، ويقاتل رياء”.

([9]) رواه مسلم في صحيحه.

([10]) سورة ال عمران آية 168.. وهناك العديد من آيات القرآن الكريم بنفس المعنى.

([11]) سورة ال عمران آية 172، والقصة بكاملها ذكرها ابن إسحاق وغيره من مصادر السيرة وهي المعروفة بغزوة حمراء الأسد، وحديث السيدة عائشة (ر) في شرح سبب نزول الآية هو حديث متفق عليه.

([12]) سورة النساء آية 104.

([13]) سورة ال عمران آية 140.

([14]) سورة التوبة آية 52.

عبد المنعم منيب

‏كاتب إسلامي وباحث سياسي‏

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى