في لحظات من التاريخ، حين تنعكس موازين القوى فجأة، وبسرعة تنقلب المعايير، فيتحول اليأس إلى رجاء، والهزيمة الساحقة المحققة إلى نصر مبين.
فهذه أمثلة من السيرة الإسلامية، والسير التاريخية العالمية، حيث قلب الصبر والتخطيط والدهاء الموازين، فكانت الهزائم المفترضة نقاطَ انطلاق للانتصار
من بدر ومؤتة وفتح مكة، إلى القادسية واليرموك، ثم معارك المماليك ضد المغول، والعثمانيين في جناق قلعة ونيقوبوليس وڤارنا، وصولًا إلى المعارك العالمية مثل ستالينغراد وواترلو، يثبت التاريخ أن النصر المبين غالبًا ما يأتي إلا في الجولة الأخيرة، وبعد شدائد عسيرة
واليوم، كما في غزة العزّة، يثبت الواقع أن الإرادة والثبات والصبر، قادرون على قلب الموازين، مهما عظمت قوة المعتدي
فلننظر إلى هذه الأمثلة لتكون درسًا وحافزًا، أن العاقبة دائمًا للثابتين والصابرين، ولله الأمر من قبل ومن بعد
وهذه بعضُ الأمثلةِ البارزة، مِنَ السِّيرة الإسلامية السابقة، وسِيَرٍ مِنَ التاريخ العام لبقية الأُمَمِ، وكيف تَحَولَت الهزائمُ المُحَقَّقة، إلى نَصرٍ مُبينٍ.
أولًا: في السيرة والتاريخ الإسلامي.
غزوة بدر الكُبرَى (2هـ / 624م).
كان المسلمون فيها قلة (313 مقاتلًا). في مقابل أكثر من (1000) من المشركين من قريش.
موازين القوى كلها ضد المسلمين، لكن الله نصرهم نصرًا مؤزّرًا حتى سُمِّيت (يوم الفرقان)، وأَمَدَّهم الله تعالى بجند من الملائكة من السماء، فانتصر المسلمون بثباتهم نصرًا مبينا، وكانت تلك هي باكورة الإِنتصارات الإِسلامية، حتى فُتحت جزيرةُ العرب، وما حولها.
فالموازين كلها كانت ضد المسلمين، لكن الثبات والإيمان، قلبا الهزيمة إلى نصر، كما أن الصبر والإصرار اليوم في غزة، قادر على قلب الموازين أمام العدو الأعظم.
2 – معركة مُؤْتَة (8هـ / 629م).
جيش المسلمين 3000 مقاتل، في مواجهة جيش الروم وحلفائهم الذي قُدِّر 200.000 مقاتل.
فرغم مقتل قادة الجيش الثلاثة (زيدٌ، وجعفرٌ، وابنُ رواحة) بعد ثباتهم الشديد، إلا أن خطة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وحُسن تكتيكه في الكَرِّ والفَرِّ، قاد الانسحاب المنظم إلى بَرِّ الأَمان، حتى عَدَّها العربُ نصرًا معنوياً باهرًا، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: [هُم الكرارون، كَرُّوا إلي]. صحيح.
فرغم فقد القادة والمواجهة مع جيوش هائلة، وبهذا تتحقق الهزيمة في أقوى جيوش الأرض، إلا أنه قد تمكن المسلمون من الانسحاب المنظم، والمحافظة على الجيش، وتحقيق النصر المعنوي، والثبات طوال أيام المعركة، وهذا يذكرنا بصمود المجاهدين اليوم في غزة، رغم كل التحديات، ورغم تساقط القادة، القائد تلو الآخرن إلا أن الكلاب تعوي، والقافلة تسير، والنصر يتحقق في كل يوم، ولو بثباتهم عليه.
3 – فتحُ مكة (8هـ)
لم تكن معركةً بالمعنى الكامل، لكنها مثال لتحول موقف كان يتوقعه الناسُ صراعًا دمويًا، إلى فتح عظيم بلا مقاومة تُذكر.
فالمواجهة المتوقعة دمويًا، تحولت إلى فتح بلا مقاومة.
وهذا يذكرنا بأن العزيمة والإيمان يحققان النصر بلا سفك دماء إضافية، حين يكون العدل حليفكم.
4 – معركةُ القادسية (15هـ).
جيشُ المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص في مواجهة الفرس الذين كانوا أضعافهم.
كاد ميزانُ القوى أن يَسحق المسلمين، لكن الصبر والثبات قَلَبَا الهزيمةَ إلى نصرٍ مُبينٍ، غَيَّر وجه المنطقة كلها.
فالصبر والثبات، قلبَا الهزيمة إلى نصر ساحق، كما أن صبر الصامدين اليوم في غزة، يبدد قوة المعتدي ويثبت الحق المغتصَب.
5 – معركة اليرموك (15هـ / 636م).
المسلمون قلة شديدة 30 ألفًا، أمام جيوش الروم الجرارة 200 ألف.
ظن الكثيرون أن المسلمين هالكون، لكن بثباتهم وصبرهم، ونجاح خطة خالد بن الوليد، وتكتيك الكَرِّ والفَرِّ، تحولت النتيجة إلى نصر ساحق لصالِح المسلمين، وسَحَقَ خالدُ القوة البيزنطية، وفتح الله عليه الشام.
فالاستراتيجية العسكرية، والتخطيط الواعي، وحُسنُ قراءة المشهد، قلبا الموازين، كما أن حسن التنظيم والصبر في غزة اليوم، يعكس هذا الدرس التاريخي، ويُذكرنا به تماما.