في زحمة الأيام، نغفل أن العمر ليس ما مضى ولا ما هو آتٍ، بل هو تلك الساعة التي نعيشها الآن. فكم من مؤمِّلٍ في الغد لم يبلغه، وكم من راحلٍ كان يظن أنه ما يزال في أول الطريق.
العمر لحظة، فإن أحسنتها كنت من الفالحين، وإن غفلت عنها مرّت كما تمرّ أطياف السحاب في عزّ القيظ، لا ظلّ تُلقيه ولا ماء.
قف قليلاً، لا عند عثرات غيرك، بل عند نفسك.
تأملها كما يتأمل الفلاح أرضه قبل الزرع: ما الذي تحتاجه؟ ما الذي يعكر صفاءها؟ أصلح شأنك، وانهض بروحك، فخير ما تشتغل به في دنياك هو تزكية قلبك.
تزكية القلب ليست كلمات تُقال، بل سلوك يُمارس: بمراقبة الخواطر، وتنقية السرائر من الحقد والحسد، وغرس المحبة والرحمة، والإكثار من الذكر الخفيّ، والحرص على العمل الصالح الذي لا يراه الناس، ولكن يراه الله وحده.
ولا تنشغل بعيوب الناس، فإنك لن تُسأل عنهم، بل عنك.
ولا تغرّك كثرة الطاعة، فما أكثر من خالطها رياءٌ خفيٌّ أو نية مريضة، والله لا يقبل إلا من القلوب المتقية، كما قال عزّ من قائل:
“إنما يتقبل الله من المتقين” [المائدة: 27].
تعلّم كيف تُنصت للزمن؛
فالأحداث ليست مجرد مرور، بل إشارات من ربٍّ حكيم. توقف عند كل تجربة، اسأل نفسك: ما سببها؟ ما دروسها؟ كيف تُصقلني؟
التجارب مرايا، فأنظر فيها بتواضع المتعلّم، لا بغرور المتجاهل.
ولا تكثر الالتفات إلى الجاهل، فإنه لا ينفعك، ولا إلى الحاقد، فإنه لا يضرك.
تجاوزهُما بعلوّ نفسك، فهما محطّتان صغيرتان على طريق النجاح، لا تستحقان التوقف.
اجعل علاقتك بالناس مرآة لأخلاقك: عاملهم بحسن ظن، وعفُو عن زلاتهم، واغرس فيهم الخير، فإنك بذلك ترتقي وتسمو، وتُرضي الرحمن.
الفرص كأطياف السحاب، تمرّ سريعًا وقد لا تعود.
فكما يغتنم الفلاح أول قطرات المطر لبذر زرعه، وكما يسابق التاجر إلى السوق قبل أفوله، فكن أنت من يبادر ولا ينتظر.
وإن واجهك الصعب، فلا تقل: مستحيل، بل ارفع كفيك إلى السماء، وقل بثقة: اللهم وفقني وسدّدني.
قلها ويقينك أن الله لا يُضيع عبده، وأن بعد العسر يُسرًا، وبعد الظلمة فجرًا، وأن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
تذكّر، الحياة ليست سلسلة من الأمنيات، بل مدرسة من التجارب.
لا ينجح فيها إلا من تعلّم بصدق، ويخسرها كل أحمقٍ ظنّ أن الزمان معلّمه دون أن يُنصت، ولا أن يتأمل.
السقوط ليس عارًا، بل درسٌ من دروس التكوين، كما الطفل الذي لا يتعلّم المشي إلا بعد كل كبوة، ولا يُدرك التوازن إلا بعد مرات من السقوط.
فلا تكن هذه الكلمات استراحة عابرة على عتبة وعيك، بل اجعلها وقفة صادقة مع نفسك.
نافذةً تطل منها كلّ يوم على أعماقك، ومصباحًا يُنير خطاك في رحلة العمر القصيرة.
ابدأ الآن، من لحظتك هذه. فالوقت لا ينتظر، وما تضيّعه من أنفاس لن يعود.
الوعي ليس محطة، بل مسار. والناجون فيه هم من جعلوا التأمل سلوكًا، والإصلاح عادة، والتوكل على الله زادًا دائمًا.