كانت لنا زيارةٌ خفيفة، مع صديقٍ وأخٍ، نعودُ مريضًا في إحدى قرى بلديات ولايتنا. وبينما كنا نقطعُ الطريقَ، اشتعلَ بيننا حديثٌ دافئ، أزاح عن القلبِ صقيعَ الغفلة. استحضرنا فيه بعضَ معاني الزيارة، وكيف باتت أشباحًا تطوفُ في ذاكرة الأخلاق، بعد أن كانت يومًا شعاعًا يُدفئ أرواحًا أنهكها الألم.
طاف بي صديقي في دروسٍ تربويةٍ نحنُ بأمسّ الحاجة إليها، فكم أضعنا من معاني الإيجابية، وكم أهملْنا معاملاتٍ بسيطة، لكنها في ميزانِ الحسنات ثقيلةٌ كالجِبال!
فقهُ السبق إلى الخيرات
قلتُ لصديقي: ألسنا اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى فقهِ المسابقة في الخيرات؟ إلى سباقٍ لا تصطفّ فيه الأرجل، بل تتقدّم فيه النوايا والأفعال؟
ميدانٌ رحبٌ للتنافس في أعمال النفع العام، حيث لا يُقاس التفوّق بعدد الميداليات، بل بأثرِ اليد الممتدة، والكلمة الطيبة، والهمّة المشتعلة.
المبادرات في المجتمع الواعي سباقٌ إنسانيّ، تُمرَّر فيه عصا الخير من جيلٍ إلى جيل، كما يسلِّم العدّاء الشعلةَ لمن يليه، دون أن يلتفت وراءه. والسبق هنا ليس رفاهًا تطوعيًا، بل مركبةٌ فضائيةٌ تُحلّق بالفعل الإنساني إلى آفاق لا تُقاس.
السبق ليس كلمات… بل شرارةٌ تُشعل
كلما كان دافعُ التنافس هو الخير، يغدو الواحد منّا أسرع من البرق في تقديم المساعدة، في إغاثة الملهوف، في بثّ العون حيث الحاجة، كما شرارةٍ تُضيء ظلمة السلبية.
وما أحوجَ مجتمعاتِنا اليوم أن تتسابق في فعل الخير كما تتسابق في الترف والمظاهر.
المبادرة قد تكون فكرةً، أو خطةً، أو مشروعًا نافعًا:
حفر بئرٍ في أرضٍ عطشى.
بناء مدرسةٍ في قريةٍ منسية.
تشييد مستشفىً يشفي الأجساد ويواسي الأرواح.
أو حتى كلمة نُصحٍ للأمة، تُغرس في عقول الشباب، فتنبت وعيًا ومروءة.
حين تُولد هذه الأعمال من تربة التواضع، وتُروى بدماء العزيمة، كما شجرةٍ تُثمر بئرًا، أو كتابًا، أو نورًا في قريةٍ نائمة.
من روائع حضارتنا… إشراقات لا تموت
لقد قرأتُ وأنا شابٌّ كتابًا بعنوان “من روائع حضارتنا” للدكتور مصطفى السباعي، رحمه الله، كان أشبه بـبوصلةٍ تشير إلى مجدٍ غائب.
بيّن فيه كيف أن حضارتنا كانت تتسابق في بناء الحياة لا في هدمها، في خدمة الإنسان لا في استغلاله، في غرس الرحمة لا في نشر القسوة.
وأنا أتلمّس رسم الكتاب ومعانيه، كنتُ أرى الدكتور السباعي في مخيلتي يبادرنا أن نأخذ زمام المبادرة… نستلهِم شروط النهضة:
“هذه روائعُ حضارتنا، خذوا من مسحاتها قبساتٍ تعيد للأمة إشراقاتها. لم تبنِ القصور من حجارة، بل شادت روائع الجمال بلمسات إنسانية.”
نموذجٌ من النور… أبو بكر رضي الله عنه
ولنختمْ هذا الحديث بصورةٍ لا تحتاج إلى ألوان، لأنها مرسومةٌ بضوء النبوّة، حتى تعرف الإنسانية المأسورة بأغلال المادة كيف كانت حضارة الإسلام.
روى أبو أُمامة أن النبي ﷺ قال:
“هل أصبحَ أحدٌ منكمُ اليومَ صائمًا؟ فسكتوا، فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله… ثم قال: هل عادَ أحدٌ منكمُ اليومَ مريضًا؟ فقال أبو بكر: أنا… ثم قال: هل تصدق أحدٌ منكم اليوم بصدقة؟ فقال أبو بكر: أنا…”
فضحك رسول الله ﷺ، ثم قال:
“ما جمعهنّ في يومٍ إلا مؤمن، وإلا دخل الجنة.”
تأمّلوا هذا المشهد الرائع:
الذي يفرض صمتَه ثقيل، ثم يليه صوتُ أبي بكرٍ كرعدةٍ في سماءٍ صافية، يجيب بثقةِ من لا ينتظر مديحًا… فيبتسمُ النبي ﷺ، وتتحوّل الابتسامةُ إلى ضحكةٍ سماوية تُزكّي هذا السبق العظيم.
أبو بكر لم يكن يتكلّم… كان يعيش ماراثونًا يوميًا من الخير، بينما نحن اليوم نعلّق على الجدران شهاداتٍ لا تُطعم جائعًا، ولا تُداوي مريضًا.
خاتمة السبق: حروفٌ من نور
نعم، تحملنا هذه الخواطر لنؤكد أنّ قيادة المبادرات ليست وعودًا تُكتَب، ولا لافتاتٍ تُرفع.
إنها جسرٌ من عطاء، يمتدُّ فوق نهر الحاجة، يعبُر عليه المتطوّعون، فيصلون إلى قلوبٍ أرهقها الإهمال.
وكلُّ سبقٍ فيها، هو حرفٌ من نور يُضاف إلى كتاب خيرية هذه الأمة.
فلنصنع من أيامنا ميدانَ سباقٍ جديدًا، نُحيي فيه خصال الصلاح، ونثبت فيه أن الخيرية ليست صفة موروثة، بل سلوكٌ مكتسب، يُحقِّق به الإنسان إنسانيته.