أقلام حرة

حشاني زغيدي يكتب: حياة يكسوها الرماد

قد تسرقنا الأضواء، وتصرفنا الدعاية الكاذبة، وقد تصرفنا الملهيات، في عوالم مزينة بألوان مسروقة، تحمل سعادة ظرفية لا يدوم لها أثر، وحين تكشف الأسارير، وتتعرى مظاهر الخداع، تكشف السوءات نشعر أننا مجرد دمى يتلهى الذراري، أو كنا نؤدي أدوارا بهلوانية في مسرح يصفق له الجمهور دقائق معدودة، ثم تنصرف تلك الهتافات صوتا خافتا وثم ينعدم.

 وتلك حقيقة يعرفها من عاش حالة الخداع، وبات يذوق مرارتها من عاشوا في الأضواء سنين عديدة، ولكن مجرد أن تضعف نسمات العمر، وتنقضي آجاله المضروبة عقدها، يعيش المخدعون حالة صدمة كبيرة، يكتشفون أن الواقع مصنوع في مسارح اللهو، وقد انطلى على المخدوعين أن الأيام فسحة سياحة أحوالها مستقرة، وأن الحال لا يتغير والنعمة لا تتغير، والحقيقة الكشافة أن الأحوال وصروفها تتغير وتتغير مثل حالة الأجواء الجويّة.

والحقيقة أن الذي لا يؤسس مستقبل حياته، ويؤسس مرحلة الرجوع للهدوء فسوف يصدم فعلا، حين يبحث له عن نصير ومعين حاله عجزه واحتياجه فلا يجد حوله يسعده ويقويه، فلا يجد إلا السراب، فسوف يجده قيعان فارغة بلا نبض حياة، يبحث حوله فلا يجد من يداوي جروحا حفرتها عوامل الزمان، فالمخدوع كان مصروف الوجهة عن كل لحظة سعيدة يوفرها لأيام الحاجة، فكل متعة زائفة سوف تمضي، سوف يمضي معها كل شيء وما تبقى سوى التحف الثمينة ذات القيمة التي لا يتغير أصل معدنها.

لنبحث في أروقة الحياة، فسوف نجد في كل زاوية صورة وقصة تروي مأساة، تروي دوران عقارب الساعة في الاتجاه المعاكس، ربما تحكي الشوارع والأزقة الضيقة حكايات المآسي لشخوص آدمية كان لها نبض حياة، ولكنها اليوم بلا بريق، بل أصبحت كمركبة تجاوزها الزمان، فلم تعد تغري عشاق الماركات.

تلك الحالة الحرجة التي لا يحسب لها، عاشها الكثير بعد ذهاب القوة، وذهاب العز، و بعد ذهاب عنفوان القوى، فحين نبحث لنا عن عكاز نستند عليه فلا نجده، أو ربما نحتاج لقارورة ماء بارد تسكن ظمأنا فلا نجده، أو نبحث عن مؤنس يؤنسنا في ساعات الفراغ فلا نجده، لنجد أن من كنا نبحث عنه ضيعناه في ساعات لهونا واشتغالنا.

يقول الكاتب أحمد العسم كلمات تستحق أن يستشهد بها في مثل هذا المقام إذ يقول: (العائلة السر العظيم والجمال في هذا الوجود، نحن نتواجد لأننا نتواجد في داخلها وهي الحاضنة، وهي منزل الروح والاستقرار الآمن وهنا ونحن معها حين نشرق مع الشمس نستبشر ونصغي لصوتنا فيها هي تعافينا إلى الأبد).

الماضي والحاضر

وخلاصة القول أن الذي لا يفكر في ساعات توقف القطار مخدوع، وأن الذي لا يفكر في مكان الراحة بعد التعب مخدوع، وأن الذي لا يأمّن المصروف لعواقب الزمان و تقلباتها مخدوع، وأن الذي يعود النفس النوم على الحرير مخدوع، فإن ضلوعه يوما ما لا تقوى النوم على الحصير، ليتنا نفكر أن دوام الحال من المحال كما أن السعادة تشترى و تدفع ضريبتها.

حشاني زغيدي

مدير مدرسة متقاعد، مهتم بالشأن التربوي والدعوي، الجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى