قبل أن أشرع في كتابة هذه الأسطر، استحضرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
«مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم؛ مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»
(رواه مسلم).
وحديثه الآخر:
«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»
(رواه البخاري ومسلم).
إنها أحاديث ترسم بوضوح الدور التشاركي للفرد في جماعة المؤمنين، وتشحنه بطاقة روحية وأخلاقية تدفعه للمساهمة في قضايا أمته ونهضتها. إن انشغال الفرد بقضايا وطنه ليس تفضّلًا، بل مسؤولية حضارية وأخلاقية، يضع فيها خبراته وجهوده ضمن منظومة جماعية تسعى للارتقاء بالأمة.
شرف الريادة مسؤولية لا امتياز فقط
لقد خص الله هذه الأمة بميزة استثنائية عندما قال تعالى:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾
[آل عمران: 110]
هذه الخيرية ليست شعارًا، بل تكليف ومسؤولية للارتقاء، فـ”الريادة” لا تنبع فقط من خطاب الهوية، بل من حجم الإسهام الواقعي في بناء الحضارة، وتوفير البدائل النافعة، وصناعة الإنسان القادر على حماية القيم وتمكين العدالة.
أولًا: التحديات التي تواجه الأفراد
ليس الطريق إلى النهضة مفروشًا بالورود؛ فالفرد يصطدم بعقبات كثيرة، منها:
♦ النزعة الفردانية والأنانية التي تفكك النسيج المجتمعي،
♦ البيروقراطية التي تعيق المبادرات،
♦ ضعف الوعي أو قلة الموارد،
♦ تحديات العصر من تغريب وهوية،
♦ ومؤسسات أحيانًا تُعطِّل بدل أن تُفعّل.
إن الاعتراف بهذه التحديات لا يُضعف الطموح، بل يُعزز الواقعية، ويفتح باب التفكير في الحلول العملية.
ثانيًا: آليات صناعة الفرد الرائد
لكي ننجح في إطلاق طاقات الأفراد، يجب أن نؤسس منظومة تربوية تصنع شخصية متكاملة، ونسأل هنا:
♦ ما دور الأسرة؟ في غرس القيم وتحفيز الشعور بالمسؤولية.
♦ ما دور المدرسة والجامعة؟ في بناء التفكير النقدي وروح المبادرة.
♦ ما دور المسجد؟ في تزكية النفس وربط الفرد برسالته.
♦ ما دور الإعلام؟ في تشكيل الوعي الجمعي لا تسطيحه.
إنها منظومة متكاملة، لا تعمل إلا إذا اجتمعت على رؤية واحدة: صناعة الإنسان النهضوي.
ثالثًا: التكامل والتنسيق بين الأفراد والمؤسسات
لا يمكن لفردٍ مهما كان نبيها أن يحمل مشروع النهضة وحده. النجاح يكمن في التكامل بين:
♦ الأفراد (الطاقة)،
♦ المجتمع المدني (المبادرة)،
♦ والمؤسسات الرسمية (الدعم والتنظيم).
لابد من آليات تنسيق فعّالة، مثل:
♦ المجالس الاستشارية الشبابية،
♦ منصات العمل التطوعي الرقمي،
♦ أدوات المساءلة والشفافية لضمان الجدوى.
رابعًا: نماذج ملهمة عبر التاريخ
تاريخنا الإسلامي زاخر بنماذج تجسد دور الفرد في النهضة:
♦ مصعب بن عمير: شاب حمل مشروع التغيير إلى المدينة.
♦ عمر بن عبد العزيز: نموذج الحاكم الفرد في محيط سياسي مضطرب.
♦ مالك بن نبي وعبد الحميد بن باديس: رواد فكر ومجتمع صنعوا نهضة في أحلك الظروف.
وفي عصرنا الحديث، نرى روادًا في المجتمع المدني أحدثوا فارقًا في التعليم والصحة والبيئة.
خامسًا: حدود الفرد في بيئة مضطربة
علينا أن نكون صريحين: الفرد قد يُحبط إذا وجد مؤسسات عاجزة أو فاسدة.
هنا تتجلى قيمة النية والمثابرة، فحتى في البيئات المريضة، يظل الفرد المخلص قادرًا على زرع بذور التغيير في محيطه المحدود.
قد لا يغيّر الدولة، لكنه يغيّر نفسه وأسرته ومجتمعه المصغّر، وكل نهوض كبير يبدأ من دوائر صغيرة.
سادسًا: الأصالة والعدالة كقيم نهضوية
لا تنهض أمة بدون قيم حاكمة.
♦ الأصالة: ليست جمودًا بل وعيًا بالهوية، وتمسكًا بالجذور الثقافية، ومناعة ضد الذوبان.
♦ العدالة: ضمانة للكرامة، ومبدأ يُجسّد في المؤسسات كما يُطالب به الأفراد.
الفرد حين يُنفق من جهده ووقته دفاعًا عن هويته، أو حين يُطالب بعدالة اجتماعية أو سياسية، فإنه لا يؤدي فقط “واجبًا”، بل يرتقي إلى مقام الريادة الحضارية.
خاتمة: من الحبر إلى الفعل
إن مشاريع النهضة لا تُقاس بحجم المقالات ولا الشعارات، بل بمدى حضورها في الميدان.
دور الأفراد محوري، لكنه مشروط بوعي، تنظيم، واستيعاب.
والأمل أن تستوعب مؤسساتنا الطاقات الفردية لا أن تقمعها، وتوجّهها في مسار مشاريع نفعية شاملة، تُسهم في صون هوية الأمة، وتحقيق كرامتها عبر قيم المعرفة، الأصالة، والعدالة.