حشاني زغيدي يكتب: قيم حضارة مزيفة
الْعَالَمُ يَمُوجُ فِي عَوَالِمِ الْمَادَّةِ الْمُوحِشَةِ، فَأَصْبَحَ كُلُّ شَيْءٍ لَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ الْمُزَيِّنَاتِ، أَلْوَانٌ زَاهِيَةٌ لَكِنَّهَا بِلَا رُوحٍ وَلَا قِيمَةٍ، حَتَّى أَشْيَاءُهَا فَقَدَتْ مَذَاقَهَا الطَّبِيعِيَّ، أَصْبَحَ الْمَرْءُ يَعِيشُ فِي بِيئَتِهَا مَسْرُوقٌ، كُلُّ الْحَقَائِقِ فِيهَا مَعْدُومَةُ الْقِيمَةِ، تَبْحَثُ فِيهِ عَنْ الصَّفَاءِ فَلَا تَجِدُهُ، تَبْحَثُ فِيهِ عَنْ الْأُنْسِ فَلَا تَجِدُهُ، عَلَى الرَّغْمِ أَنَّ مَا تَطْلُبُهُ مَوْجُودٌ فِي عُلَبٍ مَخْتُومَةٍ، تَحْمِلُ السُّمَّ الْقَاتِلَ.
كُلُّ الْأَشْيَاءِ أُفْرِغَتْ مِنْ مُحْتَوَاهَا الْحَقِيقِيِّ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يُصْنَعَ لَكَ الْمَوْتُ الْبَطِيءُ فِي عُلَبٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهَا، التَّدْخِينُ مُضِرٌّ بِالصِّحَّةِ، مَعَ ذَلِكَ يُرَوَّجُ لَهُ بِدِعَايَاتٍ مُغْرِيَةٍ تَغْزُو الدُّنْيَا.
وَلَا عَجَبَ أَنْ يُسَمِّيَ لَكَ مُغَيَّبَ الْعُقُولِ بِالْمَشْرُوبَاتِ الرُّوحِيَّةِ، كَأَنَّ تِلْكَ الْمَوَادَّ تُغَذِّي الْعَقْلَ وَتَحْفَظُهُ، مَعَ أَنَّ كُلَّ الْبَلَاوِي تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْقَنِينَةِ، حَقًّا عَالَمٌ مُزَيَّفٌ، يُخَادِعُ الْعُقُولَ بِتَنْظِيمٍ خَاصٍّ.
عَالَمٌ مَخْنُوقٌ، بَاعَ قِيَمَهُ فِي مَوَاخِيرِ النِّخَاسَةِ، فَلَا تَعْجَبْ أَنْ يُسَمِّيَ الْعَلَاقَاتِ الْخَادِشَةَ بِأَسْمَاءِ الْفَضِيلَةِ، حَتَّى يَهْدِمَ السَّكَنَ، وَتَضْرِبَ الْمَبَانِيَ الصُّلْبَةَ لِلْمُجْتَمَعَاتِ بِدَعَاوَى قِيَمٍ جَمِيلَةٍ.
عَالَمٌ يُمَارِسُ الْخِدَاعَ وَالتَّنْوِيمَ النَّاعِمَ، يَبْكِي لِمَوْتِ قِطَّةٍ وَيَفْزَعُ، مَعَ أَنَّ حَيَاةَ الْقِطَّةِ مَحْفُوظَةٌ مَكْرُمَةٌ، لَكِنْ لَا عَجَبَ أَنْ تَدُوسَ دَبَّابَةٌ أَشْلَاءَ جِسْمٍ بَرِيءٍ، فَتِلْكَ حِكَايَةٌ أُخْرَى، يُزَيِّنُونَ الْحَقَائِقَ بِمَوَازِينَ مُخْتَلِفَةٍ.
لَا عَجَبَ أَنْ يُقْنِعُونَنَا بِقَوَانِينَ عَادِلَةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي الْوَرَقِ، لَكِنَّ عَالَمَ الشَّهَادَةِ يُكَذِّبُ كُلَّ ذَلِكَ، عَنَاوِينُ بَرَّاقَةٌ تُزَيِّنُ السَّمَاءَ، لَكِنَّ الْمُفَرْقَعَاتِ وَالْعَابَ الْأَطْفَالِ تَهْدِمُ الْبُيُوتَ عَلَى الْأَشْهَادِ، يَدْرُسُونَ الْحَيَاةَ الْكَرِيمَةَ بِحُرْقَانِ الْمَاءِ وَالدَّوَاءِ.
إِنَّ زَيْفَ هَذِهِ الْحَضَارَةِ الْمَادِّيَّةِ، قَامَتْ عَلَى قِيَمِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالِاحْتِوَاءِ وَطَمْسِ خُصُوصِيَّةِ الْآخَرِ، بَلْ سُخِّرَتْ مَوَارِدَهَا لِتَزْيِيفِ التَّارِيخِ، سُخِّرَتْ مَوَارِدَهَا لِطَمْسِ ثَقَافَةِ الْآخَرِ، سُخِّرَتْ مَوَارِدَهَا سَرِقَةَ ثَرْوَةِ الْإِنْسَانِ الْحُرِّ، قِيَمُ حَضَارَةٍ قَامَتْ عَلَى الْهَيْمَنَةِ وَالِاسْتِغْلَالِ.
مَعَ أَنَّ اَلْعَالَمَ يَنْشُدُ اَلسَّلَامَ وَالْمَحَبَّةَ، يَنْشُدُ السِّلْمَ الِاجْتِمَاعِيَّ اَلَّذِي يَشْمَلُ الْإِنْسَانِيَّةَ جَمْعَاءَ، يَنْشُدُ حَيَاةً سَعِيدَةً قِوَامُهَا تَحْقِيقُ الرَّفَاهِ وَالْعَيْشِ الْآمِنِ فِي رِحَابِ قَوَانِينَ تُنْصِفُ الضَّعِيفَ، يَنْشُدُ قَوَانِينَ عَادِلَةً تَرُدُّ الْمَظَالِمَ، وَ تَكُفُّ يَدَ الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي.