الكتابة فن راقٍ، وذوق متميّز، وحرفة من حِرَف الصناع.
يعدّها القارئ متعة، ويجد فيها المبتدئ هواية، ويجعلها المحترف حرفة العمر.
لكن دروبها ليست معبّدة، وبحرها ليس هادئًا. إنها دروب محفوفة بالمتاريس، لا يقطعها إلا غواص ماهر، يجيد الإبحار، ويُحسن الغوص، ليستخرج منها اليواقيت والمرجان.
الكتابة ليست ترفًا لغويًا، ولا ملء فراغ عاطفي.
إنها صنعة لا يتقنها من يستهوي الرصف العشوائي، ولا من يقنع بالسطحي والمكرور.
لكن الكاتب يجد الصعوبة حين تضيق الثقافة الأدبية، وحين يُحاصر بذوق استهلاكي سطحي.
فلفيفٌ من القرّاء لا يريدون إلا “البضاعة المستهلكة”؛
يريدون سردًا بسيطًا، ومعنى قريبًا، ونهاية واضحة.
لكن الكاتب يريد غير ذلك.
يريد أن يُفكّر القارئ، أن يتذوّق، أن يعود للنص أكثر من مرّة.
يريد أن يكتب نصًّا يُربّي الذوق، لا يُدلّل المزاج.
ننسى أحيانًا أن الكتابة مهارة وتقنية، تمامًا كما هي النجارة أو الخياطة أو الموسيقى.
يبلغها ضليع التمكن في النحو، والإعراب، والصرف، والضرب، والاشتقاق.
يركبها حصيف الفهم والإدراك، من يفقه المجاز والاستعارة والكناية،
من يعرف التكرار لا كإعادة، بل كبناء.
من يستخرج الأنفاس من الاستعارة، ويقرأ مدلول الكلم في سياقه لا في انفصاله.
من يتذوق التهكم لا كتهرّب من الحقيقة، بل كطريق إليها.
الأدب الساخر: سيف التهذيب المغلّف بالضحك
ومن أدوات الكتابة التربوية العالية، الأدب الساخر.
فهو من أعجب ألوان الأدب: يضحكك ويؤدبك، يُسلّيك ويهذّبك، يسخر من الزيف، لا من الناس، ويكشف التناقض لا ليُشمت، بل ليُصلح.
الجاحظ في البخلاء لم يكن مجرد راوٍ للطرائف، بل كان يكتب درسًا في الأخلاق والتنمية الاجتماعية.
أحمد أمين سخر من العادات بلا عداء، وضحك من المفارقات الاجتماعية ليُعالجها بلطف.
مارك توين وعزيز نيسين لم يُضحكا الناس عبثًا، بل رسما ضحكة تُخبّئ تحتها أسئلة كبرى.
فالأدب الساخر ليس خروجًا عن الجديّة، بل وجهٌ آخر لها.
هو أسلوب تعليمي وتربوي عميق، حين يُحسن الكاتب توظيفه.
إنه وسيلة لزرع الأفكار، وفتح العقول، دون مقاومة، ودون شعور بالتلقين.
الكتابة موقف.
هي مرآة للذوق، وجسر للتفكير، وعمل تربوي حين يُتقن.
وليست كل كتابة نافعة، كما أن كل من حمل مطرقة ليس نجارًا.
الكاتب الصادق لا يكتب ليُعجب، بل ليوقظ.
وختامًا، يعد فهم نوع الكتابة وخصائصها مفتاح التواصل الفعّال للقارئ أو المتخصص،
وبفهمها يتحقق الهدف من الكتابة، سواء أكان إخبارًا أو إمتاعًا أو إقناعًا.