حول دراسة العلوم الإسلامية والعربية في الخارج
تامر الجبالي
عندما نشرت تدوينة عن كتاب “دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه” للدكتور محمد مصطفى الأعظمي، وذكرت أنه من أهم الدراسات التي ناقشت تدوين السنة النبوية، وأنها في الأصل أطروحة دكتوراه في جامعة كمبردج، وأرفقت بها ثناء المستشرق الكبير آربري عليها، وكان مما قاله: فإن الدكتور الأعظمي قد قام بعمل رائد بلغ الذروة في قيمته، وقام بهذا العمل على مقتضى الأقيسة الصحيحة للبحث العلمي. وإن الرسالة التي قدمها والتي منحته جامعة كمبردج من أجلها درجة الدكتوراه في الفلسفة لهي في اعتقادي من أروع التحقيقات العلمية التي قدمت في هذا المجال في العصر الحديث ومن أكثرها أصالة.
علق بعض الإخوة مستشكلين الدراسة في الغرب وكان نص السؤال هكذا:
لماذا يلجأ بعض الدارسين المسلمين لنيل الدكتوراه من دول الغرب في المجالات الإسلامية، بل والذي يناقشهم في أمورنا الإسلامية علماء غرب لا يدينون بديننا، كيف هذا الأمر؟ وهل يجوز شرعا؟
فأقول: الجواب الإجمالي
دراسة الباحث المسلم للدكتوراه في الغرب في المجالات الإسلامية أمر مستحب لمن تأهل له.
قبل كل شيء السائل معذور في سؤاله، لأنه أسير منظومة تعليمية ومعرفية تقوم على التلقين المحض، وغياب كل ما له علاقة بغايات العلوم ومآلات الأمور وطرائق إنتاج المعرفة أو اختبارها، أقول ذلك لبيان أن جميع المفردات الدلة على الغلط أو القصور أو الجهل المركب في كلامي قصدي منها هذا المنطق وليس شخص السائل نفسه.
هذا السؤال بتلك الصياغة يشير إلى غياب التصورات الضرورية عن طبيعة المعرفة، ومناهج البحث في العصر الحديث، وربما يشي بفهم مغلوط وليس عدم معرفة فقط، لذلك نحتاج أولا إلى تفنيد هذا السؤال لفهم أوجه الغلط فيه، وبطبيعة الحال لن أقف عند لفظة (يلجأ) وما لها من دلالات سلبية! فهذه أمور شكلية، والغالب في زماننا عدم الاهتمام باختيار اللفظ المناسب لما في نفس المتكلم، ولن أقف أيضا على ما في السؤال من مصادره، لكي يكون الجواب مناسبا للمتسائل الحقيقي الذي يستشكل هذا الأمر، ويتوقف في الجواب لعدم إلمامه بما سيتعلمه المرء في الغرب..
وعذر السائل في هذا الفهم في هذا الفهم المغلوط أنه غير ملم بالأنواع المختلفة للمعرفة، وما يلزم كل منها من مناهج بحثية، ومدى التداخل بينها، وكيفية الإفادة منها في إنتاج المعرفة، والأساس الفلسفي الذي يقوم عليه كل منهج، حتى نشأ علم مستقل يسمى «علم المناهج» أو «علم مناهج البحث» يبحث في هذه المناهج المختلفة، زد على ذلك أن السؤال بهذا المنطق يشير إلى أن صاحبه يقيس ما لا يعلم على ما يعلم، فيقيس الدراسة في الغرب على الدراسة التي نعرفها في بلداننا، وهذا القياس خطيئة كبرى، فالدراسة عندنا تعتمد بشكل رئيس على التلقين المباشر، من المرحلة الابتدائية حتى الانتهاء من الدكتوراه، مراحل متعاقبة من التلقين بأشكاله المختلفة، فالطالب يجلس مثل (الباشا) والأستاذ يلقنه بعض المعارف التي سيختبره فيها، ولا يجوز للطالب مناقشة الأستاذ على مستوى الأفكار، ولا يحق له الخروج عن (المنهج) أو الإطار الذي يضعه الأستاذ، لا يحق له ذلك لأن هذا الفعل الشنيع يعد جريمة في حق (الشيخ)! أنت تلميذ مهمتك الأولى والأخيرة أن تتعلم مني.
ولقائل أن يقول: يا مولانا، ربما يكون هذا صحيحا حتى الانتهاء من المرحلة الجامعية، لكن في الدراسات العليا الأمر يختلف.
فأقول له: هذا ما نتمناه ونرجوه، لكن الحقيقة المرة والواقع أن هذا غير صحيح، فالطالب في الدراسات العليا عندما يجد مادة ليس لها كتاب محدد، بل مجموعة مراجع يولول للأستاذ.. وربما يشتكيه لإدارة الكلية إن أمكنه ذلك، لماذا؟ لأنه يريد أن يعرف (المنهج) الذي سيُمتحن فيه، نعم بكل وضوح يريد معرفة المنهج، أي الإطار المعلوماتي المحدد الذي سيحفظه ويتلقنه من الكتاب أو المذكرة ليسترجع تلك المعلومات في الامتحان بسهولة ويسر لضمان الدرجة.
وفي هذا السياق نفهم شهادة آربري في حق رسالة الدكتور الأعظمي إذ يقول: «فإن الدكتور الأعظمي قد قام بعمل رائد بلغ الذروة في قيمته، وقام بهذا العمل على مقتضى الأقيسة الصحيحة للبحث العلمي.»
فانظر لقوله: «على مقتضى الأقيسة الصحيحة للبحث العلمي»
وإن تجاوزنا المراحل الأولى للدراسات العليا وانتقلنا للمرحلة العملية أعني كتابة أطروحة الماجستير ثم الدكتوراه، فالواقع المرير أيضا أن الطالب الذي تعود التلقين طوال حياته، حتى أصبح التلقين جزءا محوريا في طريقة تفكيره مخبوء في مكان ما في عقله اللاواعي هذا الطالب لا يستطيع القيام بالبحث من دون تلقين المشرف، وعلى الجهة الأخرى المشرف لا يسمح له بأن يفكر تفكيرا حرا، ولو حصل ذلك وخالف الطالب الأستاذ في بعض الاستنتاجات المحتملة
فستكون النتيجة هي المزيد من التعنت من قِبل المشرف، وربما عاقه عن إكمال البحث..
هذا لأن الطالب والأستاذ عندنا أسرى لطريق التلقين المباشر، ولا يتعلم الطالب في مراحل التعليم المختلفة كيف يبحث بنفسه، وكيف يختلف مع الأستاذ، زد على ذلك أن أكثر الأساتذة يتوقف بهم الزمن عند حصولهم على الدكتوراه.
هذا فيما يتعلق بالمنطق الخفي وراء السؤال، المنطق الذي أخرج السؤال بتلك الصياغة..
ويحسن هنا أن نذكر مسألة مهمة متعلقة بنظام التعليم الحديث، فمن المعلوم بين مؤرخي التعليم في العصر الحديث أن منظومة التعليم الحديث لها فلسفة تقوم عليها، تشكلت تلك الفلسفة بشكل متزامن مع الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر في حدود (1750م)، هذه الفلسفة تتلخص في إنتاج عمال وموظفين مؤهلين لأداء المهام الجديدة التي لم تكن موجودة في عصر الزراعة التقليدية، هذه الفلسفة تطورت في الغرب مع تطور النهضة والحداثة. لكن المشكلة عندنا في البلدان العربية أن التعليم الحديث أنشأه الاستعمار لتخريج موظفين مؤهلين للقيام بالعمل الإداري في الدولة بأيديولوجية جديدة، بعيدا عن التعليم الديني، فالتعليم الديني كان هو التعليم الوحيد في بلداننا، حتى العلوم البحتة كالطب والحساب والفلك كانت تمر من ممر التعليم الديني.
عندما وقع ما يسمى في مصر بتطوير الأزهر، وحدث مثل ذلك في كل البلدان العربية، عن طريق إنشاء الجامعات الحديثة لتعليم العلوم الشرعية حدث اختلال كبير في العملية التعليمية، لأن الفلسفة التي يقوم عليها هذا التعليم الحديث تناقض الفلسفة الذي يقوم عليها التعليم الشرعي التقليدي، وهذا أنتج لنا خريج مشوهة، لا هو تعلم التعليم التقليدي عن طريق التدرج في المتون والشروح المختلفة في كل فن! ولا هو تعلم التعليم الحديث كما ينبغي، فأصبح هجينا مشوها.
لذلك قد تجد الطالب الحاصل على الدكتوراه ضعيف المعرفة بالمصادر التراثية في تخصصه، وربما لا يحسن فهم لغة المصنفين القدامى، وتجده ضعيفا في فهم وتطبيق المناهج البحثية الحديثة.
فهم تلك النقطة يساعد في فهم التفوق الملحوظ في الرسائل العلمية المنتجة في الجامعات الغربية حول الإسلام..
(ويمكن هنا مراجعة دراسات الدكتور عبد الواحد وافي رحمه الله حول التعليم في مصر في العصر الحديث)
طيب، لماذا يلجأ بعض الدارسين المسلمين لنيل الدكتوراه من دول الغرب في المجالات الإسلامية، بل والذي يناقشهم في أمورنا الإسلامية علماء غرب لا يدينون بديننا، كيف هذا الأمر؟
هذا القدر من السؤال أيضا يشي بعدم وجود أي معرفة لواقع الدراسات الإسلامية في الغرب، فالمستمع لهذا السؤال يظن أن الدارس في الغرب يذهب هناك لدراسة الأحكام الجزئية للشريعة، بالمفهوم المتعارف عليه في الكليات الشرعية في البلدان الإسلامية، وهذا خطأ محض.
ولا أدري إن كان واعيا لطبيعة مرحلة (الدكتوراه) التي لا يتلقى فيها الباحث أي تلقين مباشر –أو يُفترض ذلك- فالباحث في هذه المرحلة يباشر عملا بحثيا حقيقيا، تحت إشراف حقيقي من أستاذ مختص في تاريخ العلم الذي يدرسه، ولنفرض أن الباحث سيدرس “مقارنة بين الزكاة والضرائب” فالأستاذ وظيفته توجيهه إلى المصادر، والإشراف على منهجية البحث، فلن يقول له مثلا “استبعد كلام ابن تيمية لأنه مبتدع” بل سيدله على مصادر لم يسمع عنها من قبل.. والأغلب الأعم في هذه الدراسات أنها ليست معنية بالمفهوم الضيق للحلال والحرام.
فالدراسات الإسلامية في الغرب يا عزيزي ليست داخلة في الدراسات الدينية أصلا بالمفهوم الذي تفهمه أنت، هذا في أكثر الجامعات التي تسمع عنها، إنما داخلة في العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، في سياق علم تاريخ الأفكار، وهذا أمر يطول شرحه جدا..
لكن بإيجاز شديد فإن الدراسات المتعلقة بالإسلام هي دراسات اجتماعية وإنسانية وفق آليات العلوم الاجتماعية والإنسانية، يعني يدرس التاريخ الإسلامي أو التصوف أو الفقه بصفته ظاهرة اجتماعية أو إنسانية، ولا يُفهم من ذلك أن ينزع عنه صفة الدين، لكنه لا يدرسه من جهة الحلال والحرام كما ذكرتُ، لذلك من المألوف أن تجد في التعريف بتلك المراكز البحثية في مواقعها الإلكترونية تصريحا بأن الدراسة بها ليست أيديولوجية أو لاهوتية، وهذه العلوم لها مناهجها البحثية المتنوعة التي يمكن أن نطلق عليه (فائقة الدقة) في أغلب الأحيان، إن تمكن الباحث من توظيفها بمعزل عن أي تحيزات. لذلك في كثير من الجامعات يلتزم طالب الماجستير والدكتوراه بدراسة نظرية وورشات تدريبية في مناهج البحث.
وهنا لا بد من فهم مسألة «مناهج البحث» بشكل واضح، فمنهج البحث في الجملة هو نظام لمعالجة المعلومات، وكل نوع من العلومات له أنظمة تناسبه، وله فلسفة وغاية نهائية يتغياها، لذلك ستختلف نتائج البحث بحسب تنوع المناهج، وبحسب طبيعة المادة المجموعة، وبحسب الجانب أو الجوانب التي تهم الباحث في الأساس عند دراسة أمر محدد، وربما يكون قد طرق سمعك مصطلحات مثل المنهج الوصفي أو التحليلي أو التاريخي أو الكمي أو الإحصائي..
فقد اعتاد الطلاب في بلداننا أن يزينوا مقدمات دراساتهم بذكر المنهج الذي اعتمدوا عليه في الدراسة، ولست بحاجة إلى توضيح أن استخدام تلك المناهج هي في الحقيقة استخدام صوري (كدة وكدة) لا بد من ذكره لضرورة وضع عنوان عريض للمنهج المستخدم في البحث..
وقد أشرت آنفا لعلم المناهج، ولك أن تتصور أن الطالب عندما يكتب في مقدمة رسالته أن اعتمد المنهج التاريخي حجم الجهل والتقليد الأعمى! لأنه لا يتصور حقيقة المنهج التاريخي.. لماذا؟ لأنه المنهج التاريخي نفسه مناهج، كل منها قد يصل لنقطة الاستقلال الذاتي بنفسه، على سبيل المثال هناك ما يسمى بــ«التاريخ من أسفل» ويعني إعادة بناء سردية تاريخية اعتمادا على أمور لا يذكرها المؤرخون في العادة، إلا أنها تعطينا تصورات وحقائق في غاية الأهمية، ومن أمثلة ذلك كتاب “كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة” للدكتور خالد فهمي، فهناك عشرات الدراسات عن محمد علي ودولته، لكن إبداع الدكتور خالد فهمي أنه درس التاريخ من أسفل فاعتمد في دراسته على رواية الجنود، فرصد الملابسات حول تجنيدهم ومعاشهم وأمراضهم.. وبذلك درس جيش محمد علي من جانب جديد تماما، وأنتج لنا نوعا من المعرفة لم نكن نعرف عنه شيئا مع أنه وقع قبل مئتين سنة. ويدخل في هذا الباب أيضا دراسة المراسلات الشخصية، بصفتها شهادة من شهود عيان لا ترصد كتب التاريخ التقليدية شهادتهم، من أمثلتها كتاب «جيش الشرق: الجنود الفرنسيون في مصر 1798-1801»، لتيري كرودي ترجمة الصديق العزيز المبدع د. أحمد العدوي، فالكتاب يروي شهادات لبعض العسكريين والمدنيين في جيش نابليون وانطباعاتهم وآراءهم.
وهذه الأمثلة تبين مدى تأثير المنهج على الدراسة، وقدر التفاوت -الواقع في النتائج – الراجع لاختلاف المنهج.
ولتقريب الصورة من أذهان طلاب العلم الشرعي فيمكن أن نشبه ذلك بالخلافات الفقهية أو العقدية أو السلوكية الواقعة بين المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة، فالخلافات الواقعة في فهم النص في الأساس راجعة إلى الاختلاف في المنهج، منهج قراءة النص، فالنصوص ثابتة متفق عليها لكن الاستنتاجات تتفاوت بتفاوت منهج فهم النص ووضعه في إطار عام وفق رؤية منهجية.
ويمكن في هذا السياق أن نضرب مثالا في هذا الباب مندرج في أصول الدين، وهو المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين الماتريدية والأشعرية، وقد جمعها غير واحد من العلماء منهم عبد الرحيم بن علي الأماسي الحنفي المعروف بشيخ زاده (ت944هـ) في كتابه «نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين الماتريدية والأشعرية في العقائد»، فذكر أربعين مسألة مع ذكر بيان مأخذ كل فريق.
وفيما يتعلق بالمشرف غير المسلم في هذا السياق فإن وظيفته الكبرى أن يكون قيمًا على المنهج، وليس له علاقة بالجزئيات التفصيلية (الشرعية).
وذلك لأن وظيفته الإشراف، الإشراف الحقيقي على اختيار المنهجية، واتساقها، وحسن تطبيقها وتوظيفها، وليست وظيفته التلقين! أو التوجيه السلطوي على النتائج من جهة ما تتضمنها من أفكار جزئية، فليست تلك وظيفته ولا تعنيه أصلا.
هذا فيما يتعلق بطبيعة الدراسة وطبيعة الإشراف.
ثم هناك شق آخر لا يعرفه كثير من الباحثين العرب الغلابة (وهذا وصف مجرد لحالهم)، الذين يمضون الأيام والليالي بحثا عن مصدر، أو انتظارا لإذن موظف جاهل بتصوير مخطوط!
على النقيض من ذلك نجد هناك = الطالب فور تسجيله في الجامعة، بسم الله الرحمن الرحيم يحصل على بريد جامعي وحساب يمكّنه من الاطلاع على جميع قواعد البيانات التي لا تخطر في بالك أن الله خلقها، تمكنه من البحث ومن ثم الحصول على جميع المصادر التي يحتاج إليها في بحثه بجميع اللغات.. ويُذكر في هذا الشق أيضا الخدمات المكتبية الحقيقية، التي تدلك على المصادر أو كيفية الوقوف عليها، وكل مشتغل بالبحث يعلم جيدا أهمية الإلمام بالمصادر كونها المادة الأولية للبحث.
لذلك من المألوف جدا أن يطلب منك المشرف أن تذهب لمطالعة المصادر أو الدراسات السابقة في الموضوع الذي تود الكتابة فيه لشهر أو شهرين، تقرأ وتجمع الأفكار والثغرات البحثية التي يذكرها كتّاب المقالات في نهايات بحوثهم ويشيرون إلى أنها تحتاج مزيد بحث.. واستحضر هنا= الخدمات المكتبية وقواعد البيانات التي توفر لك تلك المصادر، وتطلعك عليها إن لم تكن تعلم بها ابتداء..
حضرتك تريد الكتابة عن «الطريقة النقشبندية» اذهب للبحث واجمع الدراسات والمقالات حولها (ستجد عشرات البحوث والدراسات) مر عليها جميعا ثم انظر في أمرك وما عساك أن تدرسه في بحثك..
هذا كله غير الأنشطة العلمية المتنوعة التي ينخرط فيها الطالب، كحضور المناقشات والورشات، وتكليفة بتقديم محاضرات حول بحثه، ومناقشة زملائه له، والتدريب على النقاش العلمي الهادف، فيزداد عقلا فوق عقله.
وهناك أيضا محفزات مختلفة أخرى، فالمشاركة في المؤتمرات يترتب عليها مكافأت مالية، وتكلفة تصوير المخطوطات المتعلقة ببحثك في كثير من الأحيان تُدفع لك من الجامعة، وهناك رحلات خارجية لزيارة الأماكن المتعلقة ببحثك. وأذكر هنا موقفا من المواقف المؤثرة التي حدثت معي، وربما ذكرته من قبل، فقد طلبت تصوير مخطوط من المكتبة الملكية بكوبنهاجن، وأرسلت الإيميل من إيميلي الجامعي في جامعة ملايا في ماليزيا كنت سجلت فيها في مرحلة الماجستير، لكني كتبت في طلب التصوير عنواني في القاهرة لأنني كنت حينها في القاهرة، فأرسلت لي الموظفة بريدا بأن أكتب عنواني في ماليزيا، فأرسلت لها أني الآن في القاهرة! فأرسلت لي ثانية بأن أكتب عنواني في ماليزيا حتى أتمكن من استرداد ثمن المخطوطات من الجامعة قياسا على ما تعرفه من الجامعات في أوربا والدول المتقدمة، كما أنها ليست ملزمة بهذا النصح والإرشاد..
طبعا هذا السلوك (الحنين) لا يفهمه الطالب العربي، وربما لا يتخيل وجوده في دنيا الناس.. أنشطة لا تخطر على بال الباحث العربي الذي اعتاد إهانة المشرف له واستعلائه عليه، وتعنت مدام عفاف (بتاعة) شؤون الطلبة.. فكيف بالله عليك تقيس هذا على ذاك !
زد على ذلك جملة من السلوكيات والأخلاقيات التي سيتعلمها الطالب في الغالب سيتلاشى إحساسه بالمنافسة المحمومة بينه وبين زملائه لأن سينخرك في أعمال جماعية تعوده العمل في فريق من دون (خبث) وتكتيم، أو خوف مرضي من الحسد، سيجد زميله يعطيه بحثا قبل نشره ليأخذ رأيه من دون خوف من سرقة أفكاره.. سينخرط أيضا في بيئة أكاديمية متعددة الجنسيات وهذا سيكسبه خبرات عظيمة وأثرها كبير في نضجه واتزانه، هذه البيئة الأكاديمة متعددة الجنسيات تدفع بالجامعات الكبرى إلى تقديم عدد من المنح الدراسية للطلاب الدوليين حتى يوفروا بأبنائهم بيئة دولية في جامعتهم ومدينتهم.
كما أن الموقع الإلكتروني للجامعة سيكون مشحونا بجميع الإرشادات التي ستحتاجها، كيف تكتب خطة البحث، أو الأطروحة، وكل مبحث فيها، كيف تكتب ورقة بحثية وتنشرها.. إرشادات حقيقية
هذه هي طبيعة الدراسة والإشراف والخدمات البحثية.. على سبيل الإجمال
طيب هل يجوز ذلك؟ ولماذا يفعل المسلم ذلك؟
ذكرت في جوابي المجمل أن ذلك مستحب لمن تأهل له، وهذا التأهل أهم جوانبه تحصيل قدرا كافيا من العلم الشرعي والفكري وفهم تحديات العصر، ولا أعني التحديات الدينية أو الأخلاقية وحسب بل التحديات الإنسانية التي قد تجرف الإنسان وتحوله إلى بهيمة، وهذا أيضا سيخفف عنه حدة “الصدمة الثقافية” التي سيتعرض لها. وهذا مصطلح متداول في بيئة الطلبة الدوليين، تُعقد فيه دورات تدريبية ومحاضرات، لفهم تلك الصدمة ومظاهرها وكيفية تجاوزها وبيان أنها أمر طبيعي، بل أكثر من ذلك بعض الجامعات ترشد طلابها إلى كيفية تفادي الصدمة الثقافية العكسية التي تحدث عندما ترجع إلى بيتك بتصوراتك الجديدة المختلفة عن تصورات القديمة التي سافرت بها..
ولاحظ أيضا أن هذا النوع من الدراسة لا يلزمك بأي التزام ينافي اعتقادك أو إيمانك أو أفكارك، لكنها ستمنحك أدوات بحثية فائقة الدقة تمكنك من:
• الوقوف على الدراسات السابقة ومعرفة نقاط القوة أو الضعف في كل منها
• استيفاء المادة الأولية واتساقها
• تدريبك على مناهج البحث المتنوعة، والإشراف الحقيقي على حسن توظيفها في الجمع والمعالجة
• ممارسة التفكير النقدي الحقيقي
• اختبار أفكارك وإدراك مدى تحيزاتك ورؤية ذلك بوضوح مما يسهل عليك تفاديها وعدم الانقياد الأعمى لها، وسترى الأشياء على ما هي عليه
• تعلم طرائق تفكير تساعدك في الوصول للحقائق بشكل كبير
• اكتساب القدرة على إدراك الأفكار الزائفة والعلم الزائف
• إنتاج معرفة حقيقية موثوق بها من جميع الأوساط العلمية
هذا كله سيمنحك نظام تفكير بحثي فائق القوة والموضوعية والقدرة على الاحتجاج، مما سيمكنك من إخراج دراسة مثل دراسة الدكتور محمد الأعظمي “دراسات في تاريخ الحديث النبوي وتاريخ تدوينه” تلك الدراسة التي لم تسبقها أي دراسة من جهة قوتها وبنائها.
ويحسن هنا في هذا المثال أن نقول أن دراسة مثل هذه لم تكن تخرج بهذا الشكل من دون أن يكون الباحث ملما بالمصادر الأصلية لعلم الحديث والمصطلح، ومناهج التصنيف عند المحدثين الأوائل، ثم هو أحسن توظيف ذلك في إطار منهجي منضبط.. وعلى الجهة الأخرى يمكننا أن نقول أن هذه الدراسة إن قام بها شخص غير ملم بتلك المصادر الإلمام الحقيقي، وغير عارف بشروط المؤلفين، وطبيعة هذا العلم، فلن تكون النتيجة النهائية للدراسة بهذا القدر العالي من التماسك.
فهناك دراسات كثيرة عن التدوين المبكر في الإسلام لعلماء غربيين، لكن أكثرها لم يصل للنتائج التي توصل إليها الدكتور الأعظمي، في حين أنه اعتمد على مصادر قديمة متاحة للجميع، لكن ربما تحيزاتهم ضد الإسلام، أو قصور فهمهم لتلك المصادر حال بينهم بين تلك الحقائق التي توصل إليها هذا العالم المسلم.
ويمكن أن نستخلص من هذا أن الطالب المسلم الذي يمتلك معرفة جيدة بالمصادر الإسلامية إن امتلك هذه الأدوات البحثية المتطورة سينتج دراسات في غاية القوة والدقة والموضوعية..
ولا ننسى هنا أن نشير إلى أن الجامعات في البلدان العربية تخلو من هذه الجوانب المنهجية الدقيقة، وأكثر الأستاذة في معزل تام عن التطورات المستمرة لتلك الأدوات البحثية (الفائقة).. بل لا أبالغ –وهذه قناعتي- أن الدراسات العليا في بلداننا تمثيلية هزلية سمجة.
ومن نافلة القول الآن أن أقول أني لا أرى الدراسة في الخارج أمرا مناسبا للجميع، فهناك مقدمات ضرورية لا بد من الإلمام بها في أمر دينه، وفي العلم الذي سيدرسه، وفي الفكر والثقافة العامة، حتى يكون بصيرا بما يناسبه من دون أن يتحول إلى إمعة، فليس الغرض من الدراسة في الغرب أن تتخلى عن اعتقادك بحجة عدم التحيز لتذوب في اعتقادات الآخرين، فالبعض يفهم ترك التحيزات فهما عجيبا وكأن المطلوب منه هو محو ذاكرته العلمية ومحو لجميع الأوليات والبدء من الصفر!
ومن نافلة القول أيضا أن أقول ما ذكرته آنفا هو حكم أغلبي عام، وهناك أفراد متعصبون ضد الإسلام وهناك عنصريون وهناك تحيزات وتحاسد وهناك كل طبائع السوء التي لا يخلو منها مجتمع إنساني.. لكنها تبقى في نطاق محدود مستنكر من المنظومة غير معترف بها ولا مرحب بأصحابها..
وأستحب للقارئ الكريم أن يراجع يوميات أستاذنا الكريم الدكتور قاسم السامرائي التي يبدأ فيها بقوله “من دفتر الذكريات” وقد ذكر الأستاذ آربري كثيرا فليراجع كلامه ليعرف الرجل من لم يعرفه من أعماله، وكذلك يوميات الدكتور محمد متولي أظن بعنوان يوميات درعمي في بلاد الفرنجة كلاهما نشر ذلك على صفحته في الفيس في منشورات متتابعة وأظن يوميات درعمي طبعت في كتاب.
وكل إنسان بصير بأمر نفسه.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين