حين تُتهم الحكمة بالجبن: الإخوان بين فقه التدرج وتاريخ المقاومة

بقلم: أحمد هلال
في أزمنة الاستبداد، يكثر الطعن وتكثر المزايدات، ويصبح التسرع بديلاً عن الحكمة، والضجيج بديلاً عن الفعل، والحناجر وسيلة لمصادرة تاريخٍ من التضحيات والرؤى والتجارب.
وفي قلب هذا المشهد، تخرج بعض الأصوات المتحمسة لتهاجم جماعة الإخوان المسلمين، لا لأنها تراجعت عن مبدأ أو فرطت في قضية، بل لأنها اختارت طريقًا متزنًا، يؤمن بالتدرج السلمي ويستند إلى رؤية إصلاحية عميقة تُراعي معطيات الواقع وتقدّر العواقب.
هؤلاء المنتقدون يتهمون الإخوان بالجبن، ويصفون نهجهم بالاستسلام، ويطالبون شبابهم بالانقلاب على قيادتهم، متجاهلين أن الجماعة – رغم ما نالها من محن – لم تتخلّ عن قضايا الأمة، ولم تتنكر لتاريخها، ولم تساوم على مبادئها. بل إن الاتزان الذي تلتزمه اليوم ليس وليد خوف، بل ثمرة نضج وتجربة طويلة في العمل العام.
وإذا كان من حق أي تيار أو مجموعة أن تتبنى رؤيتها الخاصة في التغيير، فإن من المعيب – بل من الخطير – أن تتحول تلك الرؤية إلى منصة للتشكيك في إخلاص جماعة دفعت آلاف الشهداء والمعتقلين والمطاردين ثمنًا لمواقفها.
ولعلّ السؤال الأكثر إلحاحًا هنا: ما الذي قدمه أولئك الداعون للمواجهة الحاسمة سوى المزيد من الانقسام والشتات؟ وأين هو المشروع البديل الذي يمكن الوثوق بعواقبه أو الاطمئنان لنتائجه؟
إن الدعوة إلى المواجهة العنيفة، في ظل واقع عربي متصدّع وتحولات إقليمية كبرى، لا تعني سوى مزيد من الدماء ومزيد من الفوضى، وهو ما يخدم خصوم الأمة المتربصين بها من الداخل والخارج.
فالعاقل لا يزجّ بالأوطان في محرقة لا يعلم مداها، ولا يدفع الناس إلى الاحتراب الأهلي ثم يتوارى خلف الميكروفونات والاستوديوهات، يوزّع صكوك البطولة بينما يدفع الأبرياء الثمن.
ولمن يشكك في موقف الإخوان أو يتّهمهم بالهروب، فليقرأ التاريخ لا الشعارات.
فجماعة الإخوان كانت في طليعة من قاوموا الاحتلال البريطاني لمصر، وقدّمت شهداء ومجاهدين، وكانت من أوائل من استجابوا للنداء العربي في حرب فلسطين 1948، حيث شارك الآلاف من متطوعي الجماعة في القتال، وحققوا انتصارات ميدانية بشهادة العسكريين والمراقبين، في معارك مشهورة كبيت لحم وكفار ديروم، وقدموا قادتهم شهداء، وعلى رأسهم الشيخ محمد فرغلي، الذي سطّر بدمه ملاحم لا تزال حاضرة في الوجدان العربي.
هذا التاريخ لا يمكن طمسه بصوت مرتفع، ولا إنكاره بمقال حماسي.
فحين تكون المعركة واضحة والعدو ظاهرًا، لم يكن الإخوان يومًا في الصفوف الخلفية.
أما حين يكون الخطر داخليًا متشعبًا، والمآلات غامضة، فإن الحكمة تقتضي التريث والبصيرة لا الاندفاع.
وختامًا، فإن العدل يوجب الاعتراف بأن جماعة الإخوان – رغم ما لها وما عليها – كانت ولا تزال من أكثر الكيانات التزامًا بالعمل المنضبط، وحرصًا على مصلحة الأمة، ورفضًا للدخول في معارك لا يعلم أحد نتائجها.
ولا تزال تمضي – وإن بصمت – في طريق الإصلاح والصبر والثبات، متكئة على رصيدها من التضحيات، مؤمنة بأن الطريق إلى النهوض طويل، لكنه لا يُبنى على الدماء المهدرة ولا على الشعارات الفارغة.
حفظ الله بلاد المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجزى الصادقين من أهل الدعوة والإصلاح خير الجزاء.