حين اهتزّت جدران سجن الباستيل، لم تكن فرنسا وحدها على موعد مع التحول؛ كان العالم كلّه يتهيأ لعصر جديد.
الثورة الفرنسية، التي اندلعت عام 1789، لم تكن مجرد انتفاضة جياع أو غضب شعبي عابر، بل كانت لحظة مفصلية أعادت تعريف مفاهيم الدولة، والحرية، والدين، والعدالة.
في كتابها “الثورة الفرنسية”، تسبر المؤرخة البريطانية هيلين نِستا ويستر أغوار هذا الزلزال الحضاري، لتقدمه إلينا بلغة تحليلية عميقة، عبر ترجمة محكمة للأستاذ أحمد محمد عثمان، ومقدمة تمهيدية للباحث في الفِكر الإسلامي مهنا حمد المهنا، تعكس قلقًا معاصرًا في فهم المسارات التاريخية للغرب، من الداخل لا من الأسطورة.
الكتاب الصادر عن دار تموز للطباعة والنشر، ليس مجرد سرد تاريخي، بل تحليل دقيق لجذور الثورة الفرنسية وتداعياتها بعين ناقدة، تتناول البنية الاجتماعية والسياسية والدينية، وتربط بين الفكر التنويري وتمرد الجماهير، بين خطاب العدالة ومقاصل الإرهاب.
ثورة الفقراء أم انفجار القيم؟
ما يميز الكتاب هو تجاوز الرؤية النمطية للثورة، بوصفها انتفاضة للجياع ضد القصر، إلى طرح أعمق يرى فيها تجلٍّ لصراع طويل بين مجتمع يحتضر ونظام جديد يتخلّق.
تستعرض هيلين نِستا تأثير أفكار روسو وفولتير ومونتسكيو، ومساهمة هذه الأفكار في إذكاء نار الثورة، مؤكدة أن الثورة لم تنشأ فقط من أزمة مالية، بل من أزمة ثقة في معنى السلطة والشرعية.
وفي قراءة جريئة، تتناول المؤلفة دور الدين والكنيسة، باعتبارهما ساحة صراع لا تقل عن قصر الملك، وتنتقد استغلال الدين لتبرير الامتيازات الإقطاعية، ما مهّد لفصل عنيف بين الكنيسة والدولة لاحقًا.
محاور الكتاب وأبرز فصوله:
تمهيد الثورة: يسلّط الضوء على فساد البلاط، واللامساواة، وتدهور الاقتصاد الفرنسي قبيل الانفجار.
عام 1789 الحاسم: حين اجتمع ممثلو الشعب وأسقطوا الامتياز الإقطاعي، وبدأ التاريخ الجديد.
سقوط الباستيل: ليس مجرد حدث رمزي بل بداية فعلية لانهيار النظام القديم.
عصر الإرهاب: فترة الدم والرعب بقيادة روبسبيير، والمحاكم الثورية التي لم تُبقِ على خصم أو حليف.
نابليون بونابرت: الصعود المفاجئ للإمبراطور، وانقلاب الثورة على نفسها باسم “الاستقرار”.
مقولات مختارة من الكتاب
“لم تكن الثورة الفرنسية صراعًا بين الفقراء والأغنياء فحسب، بل كانت انفجارًا طويل الكبت ضد الظلم المتوارث باسم الربّ والملك.”
“في كل مرحلة من الثورة، كان السيف يسبق القلم، إلا أن أثر القلم – بعد أن يسكن السيف – كان أعمق.”
أهمية الكتاب ومكانته
يُعد هذا العمل مرجعًا كلاسيكيًا في قراءة الثورة الفرنسية، يبتعد عن التهويل والتمجيد، ويُقيم توازنًا بين الحرية والعنف، والفكر والواقع.
الكاتبة تستند إلى مصادر أصلية ووثائق نادرة، وتُعيد بناء الحدث من داخله، دون الانزلاق إلى أساطير “التحرر المطلق” أو التبرير الدموي للعنف.
الترجمة العربية جاءت رصينة وسلسة، من إنجاز الأستاذ أحمد محمد عثمان، الذي عرفته المكتبة العربية بترجماته الجادة، فيما قدّم الباحث مهنا المهنا مقدمة تعكس هموم الفكر العربي في التعاطي مع النماذج الغربية، وثوراتها، وشعاراتها التي غالبًا ما تتحول إلى أقنعة.
عن المؤلفة والمترجم
هيلين نِستا ويستر: مؤرخة بريطانية متخصصة في تاريخ أوروبا الحديث، وتركّز في أعمالها على العلاقة بين السلطة والدين، وتاريخ الثورة والفكر السياسي.
أحمد محمد عثمان: مترجم مصري بارز، له أعمال عديدة في ترجمة التاريخ والفكر الغربي، ويتميز بالدقة ووضوح الأسلوب.
كتاب “الثورة الفرنسية” ليس فقط وثيقة عن الماضي، بل مرآة للتفكير في الحاضر العربي، حيث تتكرر الأسئلة ذاتها: من يملك الحق في الثورة؟ وهل تُبرر الغايات كل الدماء؟ وهل الحرية تولد فعلًا من فوهات البنادق؟
في ظل المراجعات المتجددة لتاريخ الثورات، يظل هذا الكتاب منارة فكرية لا غنى عنها لكل مثقف، وبوابة ضرورية لفهم واحدة من أعقد اللحظات في التاريخ الإنساني.