في كتابه المهم “البحث عن الشرق المفقود”، يعود المفكر الفرنسي أوليفييه روا، المعروف بدراساته عن الإسلام السياسي والعلاقات بين الشرق والغرب، ليقدّم تحليلًا عميقًا وجريئًا لمفهوم “الشرق” كما تشكّل في العقل الغربي، وليفكك الأساطير والصور النمطية التي اختزلت حضارات بكاملها في كليشيهات استشراقية عفا عليها الزمن، لكنها ما زالت تهيمن على الخطاب السياسي والثقافي والإعلامي.
الكتاب لا يقدّم بحثًا تاريخيًا تقليديًا، بل أشبه برحلة في ذاكرة الغرب عن الشرق، وكيف بُنيت هذه الذاكرة على أساطير رومانسية أو تصورات سياسية مشوهة، صنعت شرقًا خياليًا لا يمت للواقع بصلة. يرى روا أن الغرب لم يعرف الشرق أبدًا كما هو، بل كما أراده أن يكون، سواء عبر نظرة استعمارية تتعامل مع الشرق ككتلة جاهلة متخلفة تحتاج إلى “تمدين”، أو عبر الافتتان الشرقي الذي يجعل من الشرق مسرحًا للتصوف والروحانية والغرابة.
فكرة الكتاب:
يقوم روا بتفكيك مفهوم “الشرق” كما تَمثّله الغرب، ليكشف أن هذا الشرق لم يكن يومًا حقيقيًا، بل صورة ذهنية مصطنعة، تغذيها الروايات، والأساطير، والأدلجة السياسية. من هنا، فإن “البحث عن الشرق المفقود” ليس فقط رحلة بحث جغرافي أو تاريخي، بل رحلة تفكيك معرفي وثقافي.
يشرح المؤلف كيف تغيّرت صورة الشرق في المخيال الأوروبي عبر العصور: من الشرق الفاتن في الأدب الرومانسي، إلى الشرق العدو في السياسات الأمنية الحديثة، مرورًا بـالشرق الإسلامي الذي يُقدَّم اليوم على أنه مصدر للتهديد أو الإرهاب، بحسب الخطاب الإعلامي الغربي.
أهم الفصول:
1- الشرق كصورة لا كواقع:
يستعرض فيه روا كيف أن الغرب بنى الشرق كمرآة له، لا ككيان مستقل، وأن كل ما رآه في الشرق كان في الحقيقة انعكاسًا لرغباته أو مخاوفه.
2- الاستشراق والسلطة:
يتناول العلاقة بين الاستشراق والنفوذ الاستعماري، وكيف أن المعرفة كانت وسيلة للسيطرة، وأن كل قراءة ثقافية كانت تمهيدًا للهيمنة السياسية.
3- الإسلام في مرآة الغرب:
فصل خاص بالإسلام، يدرس فيه كيف تعاملت الثقافة الغربية مع الإسلام منذ العصور الوسطى وحتى الحاضر، مع نقد عميق لتصنيفات “الإسلام المعتدل” و”الإسلام الراديكالي”.
4- الشرق اليوم.. ضحية الصور المسبقة:
يستعرض فيه كيف أدت هذه الصور النمطية إلى إخفاقات سياسية، كما حدث في الحرب على العراق أو أفغانستان، حيث تصادمت الخيالات الغربية مع واقع معقد لم يستوعبوه.
أهم المقولات من الكتاب:
“الشرق الذي يبحث عنه الغرب ليس إلا اختراعًا غربياً، صورة لا وجود لها خارج خيال المستشرقين.”
“حين يرى الغرب في الشرق إما تهديدًا أو عُريًا، فإنه يكشف عن عجزه في رؤية الآخر كآخر، لا كامتداد لذاته.”
“لا يمكن فهم الشرق من خلال العدسات الأمنية والسياسية فقط، بل من خلال الاعتراف بتعدده وتاريخه المعقد.”
أهمية الكتاب وتأثيره:
يُعد هذا الكتاب امتدادًا لمشروع أوليفييه روا في نقد الأيديولوجيا الغربية تجاه الإسلام والشرق، وقد أثار جدلًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والثقافية الغربية، خاصة لجرأته في نقد الفشل الاستراتيجي للغرب في فهم الشرق المعاصر. كما يُقدَّر له أنه يحرر الشرق من سجن التصورات الاستعمارية التي لا تزال تسيطر على الإعلام والسياسة حتى اليوم.
والكتاب مهم كذلك للقارئ العربي، لأنه يتيح له أن يرى كيف يرانا الآخر، لا بهدف الدفاع أو السجال، بل لفهم كيف تشكلت تلك الصورة ولماذا تستمر، حتى في ظل العولمة.
نقد الكتاب:
رغم عمق الطرح، يُؤخذ على روا أنه يركز على الخطاب الغربي أكثر من تركيزه على ما يقوله الشرق عن نفسه، ما يجعل الكتاب غير متوازن في بعض المواضع. كما أن بعض تحليلاته تبدو منطلقة من خلفية فلسفية أوروبية يصعب إسقاطها كليًا على واقع العالم العربي أو الإسلامي المعاصر.
لكن يُحسب له أنه لم يقع في فخ تبرئة الذات الغربية، بل يقدّم نقدًا ذاتيًا صارمًا للفكر الأوروبي، خصوصًا في تعامله مع الآخر.
“البحث عن الشرق المفقود” كتاب عابر للتخصصات، يمزج بين الفكر، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، والنقد الثقافي، ليقدّم لنا مرآة ليس فقط للغرب، بل لنا نحن أبناء الشرق: كيف نُرى؟ ولماذا؟ وما الذي ضاع من صورتنا في طريق ترجمتنا إلى لغة الآخر؟
إنه كتاب لا يقرأ الشرق كما هو، بل يقرأ الشرق في عين الغرب. وفي هذه القراءة، تكمن كل المعركة.