في وقت تتغير فيه مواقف بعض الدول الأوروبية بشأن الصحراء الغربية، أثار تصريح البرتغال الأخير إشارات جديدة على انحياز أوروبي متزايد نحو مبادرة الحكم الذاتي المغربية. ففي اجتماع رسمي عُقد هذا الأسبوع في لشبونة.
شدّد وزير الخارجية البرتغالي باولو راندا على أهمية “البحث عن حل سياسي واقعي ومستدام لهذا النزاع”، واعتبر المقترح المغربي “جادًا وموثوقًا”، وفق ما نقلته وكالة الأنباء المغربية الرسمية (MAP) وعدد من وسائل الإعلام الأوروبية مثل يورو نيوز وفرانس برس.
خلفية تاريخية: إرث استعماري وأزمة ممتدة
يعود النزاع إلى عام 1975، حين انسحبت إسبانيا من إقليم الصحراء الغربية بعد عقود من الاستعمار. وسرعان ما دخلت المنطقة في نزاع ثلاثي بين المغرب وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر،
إلى جانب موريتانيا التي انسحبت لاحقًا من ساحة الصراع. في ذلك العام، أطلق العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني “المسيرة الخضراء”،
وهي خطوة رمزية شارك فيها آلاف المغاربة لدخول الإقليم سلميًا. وقد اعتبر المغرب أن الصحراء جزء لا يتجزأ من أراضيه التاريخية، وهو ما لا يزال يردده رسميًا حتى اليوم، كما جاء في تقارير لوكالة رويترز والجزيرة نت.
من جهتها، أعلنت جبهة البوليساريو قيام “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” في عام 1976، وأقامت قيادتها في مخيمات اللاجئين بتندوف جنوب الجزائر، حيث يقدّر عدد اللاجئين هناك بأكثر من 100 ألف، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة ومفوضية شؤون اللاجئين.
الأمم المتحدة: استفتاء لم يُنفَّذ وهدنة مهددة
منذ عام 1991، ترعى الأمم المتحدة اتفاق وقف إطلاق النار بين المغرب وجبهة البوليساريو، ضمن آلية بعثة “مينورسو”.
وكان يُفترض أن يُجرى استفتاء لتقرير مصير الإقليم، لكن العملية تعطلت بسبب خلافات حادة بين الجانبين حول من يحق له المشاركة فيه.
وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، في بيان سابق نُقل عن وكالة أسوشيتد برس، إن “الأمم المتحدة ما زالت ملتزمة بحل سياسي مقبول من الطرفين”.
لكن الوضع تغير في نوفمبر 2020 حين أعلنت البوليساريو انتهاء التزامها بوقف إطلاق النار، بعد تدخل الجيش المغربي في معبر الكركرات الحدودي لطرد عناصر من الجبهة كانوا قد أغلقوه. ومنذ ذلك الحين، تدور مناوشات عسكرية متفرقة، وسط مخاوف دولية من انفجار الأوضاع مجددًا.
مقترح الحكم الذاتي المغربي
في 2007، قدم المغرب إلى مجلس الأمن مبادرة تمنح الصحراويين حُكمًا ذاتيًا موسعًا تحت السيادة المغربية، مع صلاحيات في مجالات الإدارة والاقتصاد والثقافة، بينما تحتفظ الرباط بحقها في الشؤون الخارجية والدفاع.
وقد وُصف المقترح بأنه “واقعي وذي مصداقية” في قرارات أممية متتالية، آخرها القرار 2703 الصادر في أكتوبر 2023.
ووفقًا لما نقلته وكالة فرانس برس، فإن دولًا غربية بارزة، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، أعربت عن دعمها الصريح للمبادرة المغربية.
كما أعلن البيت الأبيض، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، اعترافه بسيادة المغرب على الإقليم، وهو موقف لم تتراجع عنه إدارة الرئيس جو بايدن حتى الآن.
الجزائر والبوليساريو: تمسك بتقرير المصير
الجزائر، التي تقف بثبات إلى جانب البوليساريو، ترفض المبادرة المغربية وتؤكد أن النزاع هو “قضية تصفية استعمار”، كما جاء في بيان وزارة خارجيتها المنشور على وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية (واج).
وتُحذر الجزائر من أن دعم المجتمع الدولي لمقترحات أحادية “سيقوّض الأمن الإقليمي ويؤجج الصراع”، بحسب ما جاء على لسان السفير الجزائري في الأمم المتحدة.
أما جبهة البوليساريو، فقد اعتبرت أن أي حل لا يضمن الاستفتاء هو “خيانة لتضحيات الشعب الصحراوي”، كما صرح ممثل الجبهة في أوروبا أبي بشرايا البشير لصحيفة إلباييس الإسبانية.
المواقف الدولية: تبدلات وتوازنات
بجانب التحول البرتغالي الأخير، كانت إسبانيا قد فجّرت جدلًا واسعًا في مارس 2022 عندما أعلنت دعمها العلني لمقترح الحكم الذاتي المغربي، وهو ما أثار غضب الجزائر ودفعها إلى تعليق معاهدة الصداقة مع مدريد. كما انضمت ألمانيا إلى نفس الخط بعد زيارة المستشار أولاف شولتس للرباط أواخر 2023.
ويرى الخبير في الشؤون المغاربية، حسن زغاري، في تصريح لموقع DW الألماني، أن “التحول الأوروبي يعكس رغبة في إنهاء الصراع الذي بات يهدد أمن المتوسط وإمدادات الطاقة”. لكنه حذّر في الوقت ذاته من أن “تجاهل تطلعات الصحراويين المشروعة قد يؤدي إلى موجة جديدة من العنف واللجوء”.
تحذيرات وتحليلات مستقبلية
تُحذّر منظمات دولية، مثل هيومن رايتس ووتش، من انتهاكات حقوق الإنسان في الإقليم، سواء من جانب السلطات المغربية أو من داخل مخيمات تندوف، وهو ما يهدد فرص السلام ويعمّق من معاناة المدنيين. وفي تقرير صدر بداية 2024، دعت المنظمة إلى “ضمان حماية حقوق المدنيين الصحراويين بغضّ النظر عن موقفهم السياسي”.
ويرى محللون في معهد كارنيغي للشرق الأوسط أن الجمود في ملف الصحراء بات “ورقة ضغط إقليمية” في التنافس المغربي الجزائري، وأن أي حل “سيكون سياسيًا بالضرورة وليس عسكريًا”، كما أن “تغير المواقف الأوروبية يضع الأمم المتحدة أمام تحدٍ حقيقي لتفعيل عملية سلام متوازنة”.
بينما يستمر المغرب في حشد الدعم الدولي لمبادرته، تتمسك جبهة البوليساريو بمطلب تقرير المصير بدعم جزائري ثابت، وتبقى الأمم المتحدة عاجزة عن تحقيق اختراق جوهري في ملف معقّد.
وتُظهر مؤشرات الساحة الدولية أن الكفة بدأت تميل تدريجيًا لصالح الطرح المغربي، لكن في غياب توافق شامل ورضا شعبي صحراوي، سيظل السلام هشًا ومؤجلًا.