في خطوة غير مسبوقة منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، زار وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي العاصمة السورية دمشق في الخامس من يوليو 2025، ليصبح أول مسؤول بريطاني رفيع يزور البلاد منذ أكثر من عقد. جاءت الزيارة بعد ثمانية أشهر فقط من سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، على يد هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع، وتشكيل حكومة مؤقتة تسعى إلى إعادة دمج سوريا في النظام الإقليمي والدولي.
وأعلنت بريطانيا خلال الزيارة عن حزمة مساعدات مالية بقيمة 94.5 مليون جنيه إسترليني، تشمل دعم التعليم، البنية التحتية، سبل العيش، وتسهيل عملية الانتقال السياسي، إضافة إلى اتفاق على تأسيس مجلس اقتصادي مشترك بين البلدين، وإعادة فتح العلاقات الدبلوماسية.
وتعكس الزيارة تغيرًا نوعيًا في الموقف البريطاني من سوريا، حيث كانت لندن من أوائل الداعمين لإسقاط نظام الأسد، وشاركت في فرض عقوبات مشددة ودعم فصائل المعارضة المسلحة. أما اليوم، فإنها تتبنى مقاربة براغماتية تركز على التعاون مع الحكومة المؤقتة بشرط احترام الشفافية، تعزيز الحكم الشامل، وضمان حقوق الأقليات.
توقيت الزيارة يأتي متزامنًا مع تحولات إقليمية عميقة، أبرزها المصالحة السعودية الإيرانية، وتراجع النفوذ الروسي والإيراني داخل سوريا، فضلًا عن تغير المزاج الدولي تجاه الملف السوري، مع بروز مقاربات جديدة تعتمد على دعم الاستقرار بدلاً من المواجهة.
وتشير تحركات دبلوماسية سابقة مثل زيارة أحمد الشرع إلى فرنسا في مايو، ورفع الولايات المتحدة لجزء من عقوباتها في يونيو، إلى وجود تنسيق غربي متدرج تجاه إعادة إدماج سوريا بشروط إصلاحية محددة.
وتنظر الحكومة المؤقتة إلى زيارة لامي كبوابة حقيقية لاستعادة الشرعية الدولية، فيما تخشى أطراف في المعارضة السورية والمنظمات الحقوقية من أن يشكل التعاون الغربي غطاءً لشرعنة نفوذ هيئة تحرير الشام، وسط تقارير عن تجاوزات بحق الأقليات الدينية وغياب التمثيل الديمقراطي.
وتعمل الحكومة الجديدة على ملء الفراغ الذي خلفه انهيار النظام السابق وتراجع الحلفاء التقليديين، في وقت تحافظ فيه تركيا على وجود عسكري محدود شمالًا، بينما تواجه روسيا وإيران صعوبات اقتصادية وعسكرية تقلص من تأثيرهما. اقتصاديًا، تشكل الزيارة خطوة أولى نحو إعادة الإعمار، في ظل دمار واسع لحق بالبنية التحتية السورية خلال السنوات الماضية، ويُنتظر أن يسهم الانفتاح البريطاني ورفع بعض العقوبات الأوروبية والأمريكية في فتح الباب أمام استثمارات دولية تدريجية، رغم بقاء قيود قانون قيصر الأمريكي الذي لا يزال يشكل عقبة رئيسية أمام مشاريع التمويل الخارجية.
وبحسب مسؤولين بريطانيين، فإن الدعم الدولي مشروط بمؤشرات واضحة على التغيير السياسي، من ضمنها تشكيل حكومة أكثر شمولًا، وتوفير بيئة آمنة للمنظمات الدولية، وضمان الحريات الدينية والمدنية.
ويُتوقع أن تنسق لندن مع شركائها الأوروبيين لإنشاء آلية رقابة ومتابعة لضمان التزام الحكومة السورية المؤقتة بخارطة الطريق المتفق عليها. وفي حين توحي الخطوات الغربية بانفراجة دبلوماسية تدريجية، يرى محللون أن قدرة الحكومة السورية الجديدة على الاستفادة من الزخم الدولي ستظل رهينة بما تقدمه من إصلاحات حقيقية، بعيدًا عن الشعارات أو التجميل السياسي.
وبينما تعتبر روسيا وإيران أن التقارب البريطاني مع دمشق قد يقلل من نفوذهما الإقليمي، فإن مراقبين يرون أن موسكو قد تجد فيه فرصة لتخفيف العبء السياسي والاقتصادي، في حين تواجه طهران تحديات أكبر في ظل الضغط الإسرائيلي المستمر ومحدودية مواردها. أما الولايات المتحدة، فتميل إلى مراقبة التجربة بحذر، مؤكدة أن أي دعم مستقبلي سيكون مرهونًا بمدى التزام الحكومة السورية المؤقتة بمكافحة الإرهاب واحترام التعددية.
وتفتح زيارة لامي المجال لسوريا للعودة إلى المشهد الدولي ولكن بشروط دولية واضحة، لا تقتصر فقط على تطمينات أمنية، بل تشمل إعادة تشكيل النظام السياسي نفسه بما يعكس تمثيلًا عادلًا وشاملًا لكل مكونات الشعب السوري. وبين أوراق الجغرافيا، وتحولات السياسة، وصراع النفوذ، تبدو سوريا أمام مفترق طريق حاسم: إما أن تستثمر اللحظة التاريخية لبناء دولة جديدة متماسكة، أو أن تعيد إنتاج واقع هش قائم على توازنات آنية لا تصمد أمام الضغوط الإقليمية والدولية.
