السبت أكتوبر 5, 2024
مقالات

د. أحمد زكريا يكتب: أكذوبة المستبد العادل!

تضليل وعي الشعوب غاية كل الطغاة، ومن أجل تخدير الوعي، وتحييد الشعب يستخدمون كل الحيل الشيطانية لإيقاع الشعوب في فخ الاستسلام والرضا بالخنوع، والتلذذ بالعبودية والقهر!

ومن هذه الحيل الإبليسية أكذوبة (المستبد العادل)، وللأسف تردد المصطلح الخادع في كتب كثير من المفكرين، حتى أضفوا عليه شرعية خادعة!

وهذه البدعة المقيتة التي لا أثر لها في كتاب أو سنة تسببت في بلاء طويل عاشته شعوبنا مذعنة لحكم المستبدين متأثرة بهذا المصطلح البراق!

ويعود ظهور فكرة المستبد العادل إلى الشيخ (محمد عبده)، -وقد تأثر فيه بأستاذه الأفغاني- الذي أرسل إلى مجلة «الجامعة العثمانية» عام 1899م مقالاً بعنوان «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل»، وقد أراد بها الرد على الداعين إلى إصلاح الشرق من خلال الأخذ بالحياة النيابية والدستورية مسايرة للغرب، فيما اعتقد هو أن الأخذ بالنظام النيابي دون تهيئة الناس لتقبّله قد يؤدي إلى انتكاسة خطيرة، مُفَضّلاً البدء بمشروع تربوي للارتقاء بالأمة إلى مستوى ممارسة الحياة النيابية.

وقد تأثر (عبده) كما يرى البعض، بالظروف التاريخية في تلك الفترة التي شهدت انهيار الخلافة العثمانية، دون أن ينكر أثر محمد عبده في ترسيخ نموذج المستبد العادل في العقل الجمعي العربي، حتى أصبح النموذج الذي تحتذيه الحركات القومية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.

ومن النظرة الأولى يتضح لنا التناقض الصارخ في المصطلح ذاته، لأنه يستحيل أن يكون الحاكم عادلاً ومستبداً في ذات الوقت.

فلتحقيق العدالة يجب على الحاكم الأخذ بالشورى قولا وفعلاً، بينما الاستبداد يعني انفراده بالسلطة واتخاذ القرار وحده، مما يؤدي حتماً إلى انعدام العدل، أي الظلم المُحَقّق. والشورى وجوبية بأمر الله وتطبيق الرسول، صلى الله عليه وسلم، لها -دائماً- ثم تطبيقات الخلفاء الراشدين من بعده.

وبالتالي فالحاكم المسلم لا يكون مستبداً أبداً.

وقد ذكر الله تعالى موقف ملكة سبأ العاقلة العادلة التي قالت لقومها: (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) سورة النمل:32.

وفي المقابل ذمّ التنزيل الحكيم استبداد الطاغية فرعون: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) سورة غافر: من الآية29.

 وذمّ كذلك قومه الذين استسلموا للاستبداد: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) سورة الزخرف:54..

وأغلب الظن أن هذه الفكرة المشبوهة والدخيلة على الفكر السياسي الإسلامي، مأخوذة من أفكار السياسي الغربي المُتخبّط «ميكيافيللي» الذي كان يقول: «الغاية تبرر الوسيلة»!

فقد زعم ميكيافيللي أنه ينبغى إعطاء الحاكم كافة السلطات التي تمكّنه من السيطرة على الدولة وإدارة شؤونها ولو أدى به ذلك إلى الاستبداد!

وهكذا صار من المستقر عليه في تلك الفترة – منذ بداية القرن السادس عشر حتى اندلاع الثورة الفرنسية- أن رئيس الدولة هو السيد المطلق الذي يملك كل السلطات الداخلية والخارجية على السواء.

 وكانت إرادة الدولة تختلط بإرادة الملك الذي كان -وحده- يجسّدها ويعلنها، ومن ثم لم يكن هناك فصل بين إرادة الدولة وإرادة الحاكم “.

وقد كان من الطبيعي في ظل تلك المُسوّغات- للاستبداد أن يبلغ الشَطَطُ بالحاكم حدّا جعله يقول علناً – بلا حرج ولا استحياء- كما قال لويس الرابع عشر ملك فرنسا: «أنا الدولة والدولة أنا»! ولا يمكننا قبول هذا الكلام الذي هو أساس «صناعة الفراعين».

 ثم أن تكوين الدولة يحتاج إلى الشورى قبل كل شيء.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد تأسيس دولة جديدة –للمرّة الأولى في المنطقة العربية- وفي ظل ظروف بالغة الحرج والصعوبة، وسط تكالب أعداء بالغي الضراوة والحقد – من داخل المدينة وخارجها- ورغم هذا لم يستبد، بحجة ضرورة ذلك في مرحلة تكوين الدولة.

وقد رأينا النتائج الكارثية للاستبداد في أوروبا ذاتها – مثل فظائع هتلر وموسوليني-.

ولقد حاول الطغاة قديما وحديثا – مستخدمين بعض رجال الدين- استنساخ هذه البدعة «المُستبد العادل» لتبرير طغيان «الزعيم» وانفراده بسلطات مطلقة.

فانظروا إلى أحوال شعوبنا تروا النتيجة واضحة!!

Please follow and like us:
د. أحمد زكريا
كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب