الأحد يونيو 30, 2024
مقالات

د. أحمد زكريا يكتب: إنه يوم عرفة!

يا لفرحة من أكرمه الله بالوقوف بعرفات

ويا هناءة من تكحلت عيناه برؤية البيت العتيق

ويا لري من أطفأ ظمأه بماء زمزم

ويا لسعادة من تعطرت أنفاسه بأريج قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم -.

أتأمل في يوم عرفة.. وأتساءل:

ماذا سماه القرآن عرفات بالجمع.. وسمته السنة بالإفراد؟

والحقيقة أن «عرفات» هنا ليست جمعا لعرفة.. بل نفس المعنى للمكان المعروف في الحج.. وهي اسم من لفظ الجمع فلا تجمع ولا واحد له.

لكن أشعر في اللفظ القرآني: «عرفات» الذي جاء في صورة الجمع، بالشمول وتعدد المعاني.

فهي عرفة لمن اشتاق إلى لقاء ربه، وأراد أن يتعرف على الله -عز وجل- في بيته، فيجد الأنس والفرحة والسرور بزيارة الرب العليَ في بيته الحرام.

فيه وصل الحب وتجديد العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيادة المعرفة عن قرب بالحبيب المحبوب.

فيه معرفة بمهد الرسالة، ومبعث الوحي، ورؤية الأرض التي شرفت بنزول الوحي، وفاح النور على ثراها.

فيه معرفة بالجهد المضني، والدم المبذول من صاحب الرسالة وصحابته الكرام، لنعرف كم بذل في سبيل هذا الدين، وأن وصوله إلينا كان دونه المهج والأرواح والأموال.

فيه معرفة للعبد بنفسه، وخروج عن زخرف الدنيا وبريقها الزائف، إذ يتجرد العبد من حطامها، ويرى نفسه على حقيقتها وفي قمة ضعفها.

فيه فرصة للمذنبين يعترفون لربهم بذنوبهم، ينبعث أنينهم بعيدا عن القوالب المزيفة التي نعيش فيها، نصارح أنفسنا بحقيقتها وتقصيرها، نخرج من الوهم الذي نعيش فيه بأننا من الزهاد العباد الذين لا يخطئون، نتذكر فيه وصية لقمان: «لا تظهر للناس أنك تقي.. وقلبك فاجر»

فكم يشعر الإنسان بمرارة هذه الكلمة كلما عصى الله – عز وجل – فيأتي عرفات يجدد الأمل في القلوب، ويبعث في قلوبنا المنكسرة من ذل المعصية الحياة من جديد.

فيه نستشعر معنى التوحيد الصافي، والانسلاخ الكامل من ذواتنا، والانطلاق إلى الفضاء الرحب، والملاذ الآمن، لذلك كان أفضل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم: لا إله إلا الله ….

وقد جاءت عرفات في القرآن بصيغة الجمع قال تعالى: “فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ” [البقرة:198].

والتنوين في عرفات يسميه النحويون تنوين المقابلة.. أي: مقابلة النون في جمع المذكر السالم، وجاءت في الحديث مفردة قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف).

سبب تسمية عرفة بهذا الاسم

بعض العلماء يقولون: من العرف.. وهو الطيب.

قال الله جل وعلا عن أهل جنته: “عَرَّفَهَا لَهُمْ” [محمد:6] ففي أحد أوجه التفسير يعني: طيبها لهم، وقالوا: سميت بعرفة؛ لأن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء أمنا عليه السلام أهبطت في جده فالتقيا في عرفات فتعارفا فسميت عرفة.

والرأي الأول أوجه، وبعض العلماء يقول: لا يوجد دليل صريح صحيح على سبب تسميتها بعرفة.

قال بعض العلماء كابن الجوزي في كتابه ” تحريك الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن” .. قال:

إن القبضة التي قبضها الله جل وعلا من الأرض.. ليخلق منها أبانا آدم كانت مخلوطة من عرفات.. فقال: لهذا كل إنسان على الفطرة يجد في قلبه حنيناً إلى عرفات؛ لأن النفس تنزع إلى ما خلقت منه، والجسد يحن إلى الشيء الذي خلق منه.

وهذا لا يوجد عليه دليل.. لكن نقول: العقل يقبله ولا يوجد في الشرع ما يمنعه، لكن لا نستطيع أن نجزم به.

هذا باب الله فاطرقوه …

أحبائي في الله:

ها هي أبواب الرحمات تفتح للجميع سواء الحجيج أو غيرهم.. فلا نفوت الفرصة، بل نتمسك بها إلى أقصى درجة، فلعلها لا تعود.

ولنجعله يوما استثنائيا في عمرنا، نتعالى فيه على حظوظ أنفسنا، وعلى رغباتنا، ونتناسى -ولو في هذا ليوم فقط- ذواتنا، ونتصافى مع أنفسنا وإخواننا ومع كل خلق الله.

لنعش في سلام وصفاء، نستلهمه من تلك اللحظات الغالية، التي لا تعوض ولا تقدر بثمن.

والأمل يحدونا ألا يحرمنا الله عز وجل من عرفات عاجلا غير آجل.. والله المستعان.

Please follow and like us:
د. أحمد زكريا
كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب