مقالات

د. أحمد زكريا يكتب: الوسطية العملية

الوسطية هي الاعتدال في كل أمور الحياة من تصورات ومناهج ومواقف، وهي تعريف متواصل للصواب في التوجهات والاختيارات، فالوسطية ليست مجرد موقف بين التشدد والانحلال بل هي منهج فكري وموقف أخلاقي وسلوكي، كما ذكر القرآن:

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}

حيث تشير تلك الآية إلى أهمية الوسطية وتحقيق التوازن في الحياة. ومرجع الوسطية إلى الشرع فما وافق الشرع فهو الوسط فالتشدد في محله وسطية والرفق في محله وسطا كذلك.

فالوسطية منزلة بين طرفين كلاهما مذموم: فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والسخاء وسط بين التبذير والتقتير.

قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير الوسط:

قالوا إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تقصير وتفريط، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما.

ويقول ابن القيم:

وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان.

ويقرر الدكتور سلمان بن فهد العودة -فرج الله كربه- أن أهم معلم للوسطية هو أنه (يجب أن لا تكون الوسطية شعاراً نرفعه ضد خصومنا، بل أن تكون منهجاً معتدلاً في قراءة الأشياء؛ لنحقق الشهادة التي فرضها الله على هذه الأمة؛ كي تقوم بواجبها، يقول الله سبحانه وتعالى:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..}

والحقيقة أن الأجيال المعاصرة مظلومة، لأنها تفتقد مجالسة العلماء الأفذاذ الذين غرسوا في جيلنا الوسطية العملية، فقد ترسخت فينا الوسطية بمخالطة الفضلاء من أمثال شيخنا الغزالي وتركيزه على المضمون والجوهر، وتعلمنا الصدع بالحق من شيوخنا كشك، وعمر عبد الرحمن، وإسماعيل صادق العدوي، وحسن الخلق، ولطف العبارة من شيخنا عمر عبد الكافي، والزهد وسعة الصدر، ونصاعة الحجة في أدب جم من شيخنا عصام دربالة.

فقد أنعم الله علينا بهذه القمم الشماء ممن مضى أو بقي على قيد الحياة، لما تأدبنا بأدب الطلب وجثونا على ركبنا تواضعا لطلب العلم أكرم الله جيلنا في مجمله بالوسطية العملية، وتميز جيلنا بالإنصاف، وإنزال الناس منازلهم، وهذا -وربي- مما يفقده إخواننا كثيرا في الأجيال الجديدة.

فالوسطية تكتسب بمعاشرة العلماء الربانيين، والارتواء من نبعهم الصافي، والتحلي بالإنصاف مع مشايخنا، ووزن العالم بميزان الحسنات والسيئات، ليس بالهوى والحزبية والعصبية المقيتة.

د. أحمد زكريا

كاتب وباحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى