د. أحمد شحروري يكتب: حقيقة الوطن ومعنى الزعامة
عندما يخاطب زعيم دولة شعبه بمنطق الـ(مفيش)، وهي دولة ذات موارد وجغرافيا تدرّ ذهبا على حكومة راشدة وحوكمة سديدة.. لو وجدت، عندما يمنّ هذا الزعيم على شعبه بأنه يستطيع أن يأكل وغيره (لا نستطيع ندخل له ما يأكل)، عندها نقرأ على زعماء تاريخنا المجيد السلام، نذكر الرشيد الذي كان يخاطب السحابة تمر من فوق رأسه: أمطري حيث شئت فإن خراجك قادم إليّ، ولئن لم تكن حدود بلد الزعيم المفدى تمتد حيث يمتد غيم الرشيد فإن موقعه والصادر والوارد إليه ومنطق السياسة والسيادة كل ذلك يرشحه لأن يكون من الدول الغنية.
ليست مشكلتنا الوحيدة مع الزعيم المفدى بأنه دائما ما يقطع يده ويشحذ عليها، فهذه مشكلة إدارية اقتصادية، لكن إذا أضفت إليها تصريحه بأنه غير قادر على السيطرة على حدود البلد وأن دولة الاحتلال تمنعه من إدخال الطعام للمحاصرين الجوعى فإنها مشكلة سيادية بامتياز، ولأن (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) فكل راعٍ لا يستطيع تحقيق مصلحة رعيته مطلوب منه أن يفسح المجال لراعٍ غيره أكثر رشدا وأنجح إدارة وأوعى فكرا ليدير دفة الأمور ويوصل شعبه إلى برّ الأمان.
مشكلتنا في الوطن العربي الجريح من محيطه إلى خليجه أننا نجبن كثيرا عن مواجهة حقائق الأمور كما هي، مما يعطل التنمية في دولنا ويبعثر اقتصادنا ويفتت ريع مواردنا وهي في طريقها إلى الشيطان. فإنك تسمع في بلاد العُرب مصطلحا لا يملك من يواجه به إلا الرضوخ لئلا يتهم في ولائه ونزاهته، مصطلح (الوطن) رنان في آذاننا، فنحن نعمل لأجل الوطن، وندفع الضرائب لأجل الوطن، ونظلم في رواتبنا وأجورنا لأجل الوطن، نجوع ويحرم أولادنا من فرصة التعليم لأجل الوطن، ولا ندري أن قوىً لو أمعنا النظر لرأيناها، لأنها تختبئ خلف أصبع الوطن، فهي فرد أو أفراد محصورون يجوع الجميع ليتخموا، ويفتقر الجميع لتتورم أرصدتهم في بنوك الغرب، ويتعب أبناؤنا ليستريح أبناؤهم.. وكله فداء (الوطن).لقد حولوا الوطن إلى وثن يتهمون من لا يسجد في محرابه بالخيانة والاندساس والتمرد.
وإذا يممت وجهك شطر غزة ورجالها وجدت مشروعا جديدا، مشروع ثلة (طائفة) آلت على نفسها أن تكسر موازين الباطل، فالوطن في قاموسها هو التراب والهواء والفضاء الذي استخلفها الله فيه، فهي تتقدم صفوف من يفتدونه بأرواحهم، وأبناؤها يشاركون كل الأبناء، ونساؤها وأطفالها هم الشهداء والجرحى والمعتقلون مع سائر أبناء الوطن.
الوطن في غزة عقيدة ورباط، الوطن أشلاء تصعد إلى بارئها لتنبت على إثرها معاني العزة والكبرياء، والوطن الذي يدافع عنه الغزيون سيطعم مَن حوله مِن الدول في يوم قادم قريب، فليغلقوا الحدود كما شاؤوا، وليمنعوا المدد كما شاؤوا، فتلك حرب ألِفتها غزة منذ عقدين ولم تمت، بل خرجت من بين نيرانها لتتبّر علو يهود وحلفائهم ولتقضي على كتيبة غزة في جيش العدو ولتدمر كل يوم من عتاد العدو ما يكسر ظهره، ليعلم المنافقون أن من حرص على الموت وهبت له الحياة.
يألم المرء من مشهد يظهر العرب عاجزين، وكأن غزة وأهلها نبت آخر، كأنها فرع ملائكي في محيط بشري قاصر، فأربعة أشهر تمر على عدوان لم يشهد له التاريخ مثالا، يهدم العمار ويعبث بالجغرافيا ويقتل الحياة، وأمتنا التي صنعت من الوطن وثنا هي التي بصقت عليه عندما رأت أنه في غزة يمكن أن يُخسِر حساباتها لا أن يدرّ لها غلة كما تعودت عند تأليهها الوطن الذي يضم أشباحا من الناس ذليلة تدفع لمن يسومها سوء العذاب أكثر.
لله در غزة فقد ميزت بين الأحرار والعبيد.