مقالات

د. أسامة الأشقر يكتب: حمّالةُ الحطب الصخّابون!

1- الثبات الاستراتيجي ليس فكرة للاختبار، وليس سياسة مؤقتة خاضعة للمراجعة والتغيير كما يوحي لنا القوّالون والحمّالون، سواءٌ منهم: الضعفاءُ المتأثرون بسطوة الضغط، أو المسيَّسون المتعصبون، أو المرتزقة المأجورون، أو الصخّابون الباحثون عن الظهور؛ وإنما الثبات الاستراتيجي نمطٌ عمليّ عنيد يُصرّ على شقّ طريق الاتجاه الاستراتيجي الذي لا محيد عنه في تدبير شؤون الصراع، وهو الاتجاه الذي تواضع الحكماء الخبيرون والعارفون المجرّبون على غائيّته وضرورته وترجُّح المصلحة فيه على المدى الطويل.

2- وفي إدارة الثبات الاستراتيجي يمكن استعمال تكتيكات مرنة وسريعة، ويسعك المرور في طرق فرعية وجانبية وخلفية، ويمكنك أن تستريح قليلاً، وتموّه بالعودة إلى محطة سابقة، ولكنك تظل على منهاج الطريق، وتعرف غايتك، وتراقب خطّ الانحناءات والانكسارات أثناء المسير، ولا يفوتك مدى تأثيرها على مؤشر الصعود الذي يجب أن يظل صاعداً في القياس.

3- وكلما كانت قدرتك على تثبيت منهجك عالية الالتزام أصبحتَ أكثر قدرةً على التحكّم بهذا المسار وضبط مستجدّاته وإحكام أدواته، وفي الإدارة النبوية الاستراتيجية وجدنا نماذج قويّة الاستدلال، ولاسيما في خط الفتوح والتخطيط العسكري والانتشار الأفقي.

4- ووجدنا نماذج في التخطيط الاجتماعي النبويّ الذي يشدّ الموقف العام إلى الغايات الاستراتيجية ولو بالإعلان عن اتجاهات فرديّة لتعزيز القناعة بالاتجاه الاستراتيجي.

5- من هذه النماذج ما يذكره أصحاب السِّيَر أن رسول الله تجهّز للموعد الذي ضربه مع أبي سفيان لمواجهة عسكرية في بدر الموعد بعد انتهاء معركة أحد، واستثمر الأموالَ التي أفاءها الله عليه من غزاة بني النضير، ومع قرب حلول الموعد تردّد أبو سفيان في الوفاء بميعاده، ولم يجد فيه مصلحة ذات قيمة في هذا التوقيت الذي ورّط قومه فيه في لحظة نشوة، وأرسل لنعيم بن مسعود الأشجعي أن يثبّط رسول الله وأصحابَه عن الخروج لأنه غير مستعد، لكنه لا يريد أن يكون إخلاف الموعد منه، وطلب منهم أن يشيع بين المسلمين أن قريشاً في جمع كثير ولا طاقة للمسلمين بهم، وأعطى لنعيم مكافأة جزيلة مضمونة.

6- كان نعيمٌ ماهراً في إذاعة الأخبار وتسويقها واللعب بمضامينها، فطاف على أصحاب رسول الله وهم يتجهزون، فصار يحكي لهم عن خسارتهم في أحُد، وكثرة القتل فيهم، وعن جراحات رسول الله وإصاباته حتى كاد يُقتل، وأن قريشاً في جمع كثير سيطؤونكم في عقر داركم، ولن يفلت منكم أحد، وصارت هذه الرسالة على لسان كل قادم من مكة، حتى رَعَبَهم، وكره المسلمون الخروج، حتى نطقوا بتصديق قول نُعيم أو من نطق منهم بقوله، وهابوا ذلك.

7- وانتشرت دعاية هذه الحملة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رعبهم حديث نعيم، وكرّه إليهم الخروج، ونَطقوا بتصديق قول نعيم أو من نطق منهم. وتظاهرت الأخبار والمعلومات بذلك عند رسول الله حتى خاف ألا يخرج معه أحد.

8- يقول عثمان بن عفان: لقد رأيتُنا وقد قُذِف الرعب في قلوبنا، فما أرى أحداً له نية في الخروج، حتى أنهج الله تعالى للمسلمين بصائرهم، وأذهب عنهم تخويف الشيطان.

9- وسبب إنهاج تلك البصيرة ووضوحها كان في ثبات القيادة العليا، فقد شعر أبو بكر وعمر بخطورة هذه التعبئة السالبة وتمكُّنها، فجاءا إلى رسول الله، وتحدّثا معه عن ثقتهم الكاملة بوعد الله بإعزاز دينه، وأنه لا يمكن التخلي عن المواجهة لأن ذلك سيظهرهم جبناء في مجتمعٍ يقدّر الشجاعة ويتبع من يتحمّل تكاليفها؛ فسُرّ رسول الله برأي أصحابه المقرّبين، وأعلن لهم توجهه الاستراتيجي بصورة قاطعة مهما بلغت التكلفة: “والذي نفسي بيده لأخرُجنّ، وإن لم يَخرج معي أحد”، فخرجوا مع رسول الله بجيش كبير وتجارةٍ، وتخلّفت قريش، وكسب رسول الله الجولة بهذا الثبات.

{فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلا}

د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights