مقالات

د. أسامة الأشقر يكتب: من ورائهم محيط!

1 – لا أجد كلمةً أتعزّى بها وأعزّي أهلي ورفاقي، وأمدّ بها الأمل إذا تعرّضوا لاعتداءِ ظالمٍ، أو عِنادِ جبّارٍ متكبّر، أو تطاوُل وغدٍ متعصّب إلا أن أقول: إن الله ربّي من ورائكم فلا تيأسوا!

2 – لأنني أعلم أنّ الله تعالى (من ورائهم محيط) سيسلط عليهم عذاباً لا يفلتون منه، وهلاكاً لن ينجوا منه، ورَهَقاً لا ينفكّ عنهم وعن ملئهم الأعلى الذي يُظاهِرهم.

3 – هذه “الوراء” ليست جهةً تعني الخلف، بدليل أنه قال “محيط”، والإحاطة تنفتح على كل الجهات، تعني الأمام والخلف وتعني الميمنة والميسرة، وتعني الفوقية والتحتية، بل هي تمثيل مستعار للأمر الذي يصيب هؤلاء لا محالة من حيث يظنون أنه لا يصيبهم.

4- وهو تمثيل للحال الذي ينتظرهم وهم في غفلة عن الله الربّ المتعالي، وكأن الهلاك قد أحاط بهم من جانب وهم لا يعلمون، فإذا راموا النجاة، وفرّوا وجدوا الهلاك محيطاً بهم يأخذهم أخذاً وبيلاً.

5 – واستخدام الوراء في هذا المعنى لعله بسبب أن أي مقاتل يؤمّن ما وراءهم ومن وراءه ويحميه، ويسد كل ثغراته قبل أن يتقدّم، ويحصّنه لاحتمال الانسحاب إليه، ويحسب حساباً للخطر الذي أمامه، فإذا جاءه من ورائه فقد انسدّت عليه السبل، ووقع في حصار مميت لأنّ المحاط به في حقيقة الأمر محصور محاصَر لن ينجو من القضاء الذي سيحلّ به.

6 – ومثل ذلك المعنى الحديث الصحيح: (إنَّما الإمامُ جُنَّة يُتَّقى بهِ، ويُقاتَلُ مِن ورائه)، فهذا الإمام القائد تراه وراءك: أمامك وخلفك، وعن يمينك ويسارك، تجده بذاته يقاتل إلى جانبك، وبخطته، وبعزيمته، ومساندته، وتراه جنده يستديرون من حوله ويحيطون به لأنهم يعلمون أنّه لن يخذلهم ولن يتركهم في المعركة، فتخيّروا لأئمتكم وقياداتكم!

7 – وكلمة “الوراء هنا رغم سطوع المكان فيها، وظهور معنى الظرفية إلا أنّ الزمان يتسلل إلى هذا المعنى، فكل وراء لها قدّام، وتسلسل الأحداث يبدأ خطوة خطوة، فكل خطوة تتقدم تصبح قُدّاماً، وكل خطوة تتأخر تصبح وراء، فتصبح الوراء ماضياً، ولكنها لا تنفك عن امتدادها الأمامي، ولا تنفصل عنه، يتتابعان في اتصالٍ.

8 – والذين ظنّوا أن تأويل “الوراء” يكون بـ”قدّام” وقَعوا في التسلسل المتصوّر في طبيعة التقدم والتأخر زمانياً، وظنوا أن “وراء” من أضداد “قُدّام” و”أمام”، وفاتهم أن “الوراء” ظرف يتضمن معنى التواري والاستتار، ولخفائه على الغافل فإنه لا يراه أمامه، ويظنّه خلفه، الذي كان قد مرّ به سابقاً ولم يره.

9 – وليس هذا فحسب، بل إنك عندما تقول لأحد “وراءَكَ بردٌ شديد” فهذا يعني أن هذا البرد سيلحقك، ويدركك، وكأنه صار بين يديك، فلا تحسبوا أن الله سبحانه لن يلاحق هؤلاء الظالمين، ولن ينتقم منهم، بل إن لهم موعداً كالطوفان يلاحقهم من ورائهم، وسيغرقهم لا محالة.

د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights