مقالات

د. أسامة الأشقر يكتب: يا أهلنا تحت النار… أنتم آباؤهم وهم أبناؤكم!

 

1- فلربّما تظنون في أبنائكم الذين صنعوا لكم هذا الطوفان أنّهم قد تجاوزوا حدّ القدرة، وأسرعوا بكم السير على راحلة هزيلة، وقفزوا بكم في الهواء، وغامروا بكم في محيط كالجبال.

 

2- ونعلم أن ذلك الظنّ يأتيكم من فداحة الخَطْب، وعِظَم الأمر، واتساع الدمار والنقص في الأنفس والأموال والثمرات، مما يجعل أدوات الإدراك العامّ تحت كل هذا الضغط محجوبةً بمشاعر عسيرة التفهّم، غليظة الجدار.

 

3- وقد يسعُكم في لحظة حزنٍ مستولِيةٍ ويأسٍ مستطيرٍ أن تتداولوا فكرةً باديةً سريعةً سترون أنها لحظة وفّق اللهُ فيها أبناءَكم الأبرار الذين مضت أرواح كثير منهم وهم يجتهدون في بلوغها، وكتابة سطورها، وستجدون بعد حينٍ أنّهم صنعوا لكم مجداً عريضاً لن ينساكم الدهر به.

 

4- فقد أزال أبناؤكم أسطورة الملاذ الآمن لمجتمع العدوّ اللقيط الذي فرّ مئات الآلاف منه؛ وانقطعت ذراعهم الطويلة التي يستطيلون بها على كل شعب حولهم؛ ودخلت المعركة إلى داخل حظيرتهم، ولم يستطيعوا إبقاءها في الخارج كما اعتادوا؛ وتورّطوا في معارك طويلة لم تحدث لهم من قبل؛ ولم يبق لهم ردعٌ يحتمون بجدرانه، ويخوِّفون الناس به؛ وبات الجميع يعرف أن أسوارهم واطئة يمكن القفز عليها واجتياحها من أيّ مكان.

 

5- وقد أثبتت حفائرُ الأرض وأسرابُها جدارتَها في المعركة المكشوفة التي لم يظنّ أحدٌ أن ثمّة فرصةً للثبات فيه، فهي قلاع أبنائكم المدفونة في الرمال، وهي حصونهم المنيعة، وهي مصانع عدّتهم ومنصات إطلاقهم ومستودعات كمائنهم التي عمِي العدوّ عن بلوغها وإدراكها وفهمها، وقد رأى بما وصل إليه منها ما أذهله من غريب هندستها ودقّة صنعتها وعظيم أدوارها، ومناعة معرفتها، وما زال العدوّ عاجزاً عن الكثير الأغلب منها، إذ ما تزال خرائطها مستعصية عليهم تفضح جهل أجهزتهم الدقيقة التي يسوّقونها للعالم ويكتسبون منها رزقهم الحرام.

 

6- وقد كانت بعض هذه الحفائر النافذة مقابر لأحبائكم أيضاً، لم تشيِّعهم سوى رمالها الثائرة التي ضمّتهم بحنانٍ، وارتوت برحيقهم الأحمر الطاهر، وتعطّرت بمِسْكِهم العابق، فتقدّست الأرض بهم، وصارت لغيرهم قِبلةً يتوجّهون إليهم، وأنموذجاً يُقتدَى به، ويُشار إليه باعتزاز.

 

7- وما زال هذا العدوّ لا يعرف كيف ينتصر في هذه المعركة، ولم يعرف إن كان يقترب من تحقيق هدفه أم ما زال بعيداً عن بلوغ ذلك، بل إنه لا يعرف من حَيّ ومَن مات من قومه، بل إنه إلى الآن لا يعرف عددهم لاسيما أن بعضاً ممن ظنّهم أمواتاً قد وصلوه أحياء في الهدنة الأولى فأيقن أنّه أعمى.

 

8- وقد أصعد أبناؤكم هذا العدوَّ شجرةَ شوكٍ عالية، فبات العدوُّ يرى بأمّ عينيه انهيار الدعاية التي بناها في العالم لأكثر من سبعين عاماً، وأيقن عاقلوه القليلون أنّ خسارتهم أعظم بكثير مما متّعوا به أبصار مجتمعهم المجنون من مناظر القتل والدمار، وما تزال أبراج الدعاية تتهاوى عليهم، ولن تلبث أن تسقط كلها بعد أن تعرّوا أمام العالم كلّه بِشرّهم وفجورهم.

 

9- وأمّا مجتمعنا الذي ولد كل هؤلاء الفوارس الأبرار فقد ناله البلاء العظيم كما نال الأنبياءَ من قبلُ، ولا شك أن خسارته فادحة، لكنّه يعلم أنّه كان شاهِدَ عصرِه الذي حضر فيه هذه الملحمة الأسطوريّة، وسيجعل حول عنقه قلادةَ فخرٍ ستحمل روحه الأبيّة إلى أعلى منازل الرفعة والتقدير والاحترام، وسيفتخر هذا المجتمعُ يوماً بأنّه أنتج للعالم هذه الذرّيّة الفاخرة التي أذهلت كلّ مَن عاصر إنجازهم.

 

10- ومن أجل ذلك ومع أنّ الرغبة جامحة في أن تتوقف هذه المعركة، ويتوقف القتل والتدمير فإنّ أحداً لن يستسلم من أبنائكم المصنوعين على عينٍ، ولن يرفعوا راية بيضاء، وليس لديهم ما يلوّحون به سوى بنادقهم المُكبِّرة، وجميعنا يعلم أنّ أي توقُّف الآن يعني هزيمة، وأنّ أحداً لن يلتفت إلى الوراء مهما جرى، وسيظلّ أبناؤكم الباقون في مواقعهم حتى تنفد كل ذخائر الحياة أو تخفق راية النصر فيه.

د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى