د. أسامة جادو يكتب: علو الهمة وانقاذ الأمة

جرت سنةُ الله تعالى في التمكين لدينه في الأرض أن يكون ذلك عن طريق بذل غاية الجهد البشرى واستنفاد الطاقة قال تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ {4} سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ {5} وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ {6} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ {7}} [محمد 4: 7].

كان الله تعالى قادرا أن ينصرَ رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة كن فيكون، ولكن كما قال تعالى ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن صارت سنته في خلقه أن يُمكنَ لأهل الحق بجهادهم واختبارهم وعطائهم (ولكن ليبلو بعضكم ببعض)، حين يندفع اُهل الحق في طريق البذل والجهاد والتضحية والفداء ويصطدموا مع أهل الباطل حينها يتنزل المددُ الربانيُّ ويتوالى العطاءُ الإلهيُّ حتى يتم النصر والتمكين وحينئذ يفرحُ المؤمنون بنصر الله تعالى.

تنتصرُ الأمةُ بعلو همة أفرادها

صاحبُ الرسالة جندي الفكرة والعقيدة ذو همةٍ عاليةٍ تناطح الجبال في شممها، وتعانقُ السحابَ في سموها، لا يعرف اليأسَ ولا يحبطُه شيءٌ، فليس اليأس من أخلاق المؤمنين ولا صفات المجاهدين. ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا وهو يغرد بكلمات نورانية

لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائقُ اليوم أحلامُ الأمس، وأحلامُ اليوم حقائقُ الغد، ولا زال في الوقت متسع، ولا زالت عناصرُ السلامة قويةً عظيمةً في نفوس شعوبكم رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيفُ لا يظل ضعيفا طول حياته، والقوي لا تدوم قوتُه أبد الآبدين.

ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين

ربّ همةٍ أحيت أمة

نعم ربّ همة فرد في الصف المؤمن تكون سببا في بعث الأمة من جديد ونهوضها من كبوتها وتغلبها على نقاط ضعفها فيُكتب لصاحب هذه الهمة أجرُ الأمة كلها.

وما تاريخ الأمم الا نقاطٌ مضيئة أضاءها أفرادٌ كرامٌ أصحابُ همة عالية، سطروا بجهدهم وعطائهم وأوقاتهم ودمائهم وأموالهم سطور المجد والعزة للأمة.

قال بعضهم: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، ومعنى ذلك: أنَّ المؤمنَ لا تنتهي إنجازاتُه في أمور دينه ودنياه، بل كلما انتهى من إنجاز سعى إلى آخر، وهكذا حالُ صاحب الهمة العالية.

وقد حثَّ الله سبحانه عبادَه على علوِّ الهمة، والمسارعة إلى الخيرات، والتنافس في أعالي الدرجات،

قال تعالى:

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ

وقال تعالى: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ [الصافات: 61]، وقال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26].

صاحبُ الهمة له ميراثٌ عظيمٌ من قادة كبار سبقوه الى الفردوس الأعلى وهو على أثارهم يسير، يصل خطوه بخطاهم، إذا أظلمت الدنيا في وجه الأمة واجتمع عليها أعداؤها انتفض ووقف في وجههم مجدداً سيرة الصحب الكرام، أصحاب النفوذ الى العُلا الراغبين في المقاعد الوثيرة حول عرش الرحمن، حين يتنافس غيرهم على دنيا فانية يصيبون منها ما قسمه الله تعالى لهم.

تأمل معي هذين المشهدين لنماذج مشرقة من أصحاب الهمم العالية

روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في غزوة بدر، قال: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ))، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ))، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟! قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟!)). قَالَ: لاَ وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا،

قَالَ: ((فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا))، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ “

حين دنا الموت رخص كلُ شيء في سبيل الله تعالى، وعلت الهمة وتطلعت الى جنة عرضها السموات والأرض وتقدم ليكون النموذج المحتذى والقدوة للأمة.

بمثل هؤلاء تنتصر الأمة ويعلو شأنها

النموذج الثاني:

ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتل وقد مَثَّل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته بِبِنَانِه.

قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ إلى آخر الآية [الأحزاب23.

يا الله يا الله أي روح هذه التي سكنت تلك النفوس الأبية فارتقت بها هذا الرقى وسمت بها الى مصاف القديسين والشهداء رفقاء الأنبياء والمرسلين.

أصحابُ الهمم العالية يسدون الثغرات ويحمون الثغور، يُصلحون الخلل ويسترون العيبات، جندٌ مجهولون في هذه الدعوة المباركة يلقون ربهم تعالى وهو راض عنهم، ستروا انجازاتهم واخفوا تضحياتهم، كانت لله تعالى وهو مطلع عليهم، ليس هاماً عندهم أن يُعلم صنيعُهم، ما يشغلهم أرضى الله عنهم؟

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ أخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع.)

أصحاب الهمم العالية يبرون بقسمهم ويوفون بعهودهم،

في رقابهم بيعةٌ لله تعالى، وفي ذمتهم عهدٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقسموا بالله العظيم أن يكونوا جندا له وحده، وأن يبذلوا جهدهم وينفقوا من أنفسهم وأموالهم ودمائهم وأوقاتهم وحرياتهم، وفاءا للعهد الأقدس مع الله تعالى

تشرفوا بالبيع لله تعالى وهو اشترى، والثمنُ الجنةُ

(إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوزُ العظيمُ) سورة التوبة 111)

ونزيدكم من الشعر أبيات، فللشعراء همةٌ كذلك تشحذ همم الكرام ذوى المقام الرفيع أصحاب الرسالات جنود الدعوة والفكرة

مما قاله المتنبي

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعمُ الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

وقال أبو فراس الحمداني:

ونحن أناس لا توسط عندنا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا

ومن يخطب الحسناء لم يغله المهرُ

ختاما

هذه أيامٌ فُتحت فيها صفحاتُ المجد والعز وأمسكت الأُمةُ أقلامها لتسطر لأصحاب الهمم العالية سطور الفخر في تاريخها

فمن يرغب أن يُسطر له عند مولاه ما يشفع له يومَ الحساب؟

ومن يشمر ويجد ويهتف في سمع الزمان أنا لها أنا لها؟

تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال وجعلنا وإياكم من أصحاب الهمم العالية الراغبين في الفردوس الأعلى.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد معلم الناس الخير

د. أسامة جادو

العميد السابق لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الزهراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights