مقالات

د. أسامة جادو يكتب: وصايا رمضانية «الوصية السادسة».. ليلة القدر

قال العلماء: سميت ليلة القدر لما يكتب منها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في هذه السنة كقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4].

ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به، وتقديره له.

وقيل سُ ميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها، وقيل ايضا: لأن العمل الصالح فيها يكون ذا قدر عند الله لكونه مقبولا.

فضلها:

هي أفضل ليلة في ليالي السنة، قال الله تعالى {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]. أي أن العمل الصالح في هذه الليلة خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وهذا بعض عطاء الله تعالى لعباده المؤمنين.

وعن أنس بن مالك رض ي الله عنه قال: دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم» (رواه ابن ماجة).

وعن أبي هريرة رض ى الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

وهذا فضل الله تعالى يعطيه من يشاء من عباده، ولا يسع المؤمن إلا التسليم والإقرار والسعي والاجتهاد حتى يُ كتب من السعداء في هذه الليلة، جعلنا الله تعالى وإياكم من السعداء في هذه الليلة المباركة.

وقد اتفق العلماء على وجود ليلة القدر ودوامها إلى آخر الدهر ل لأحاديث الصحيحة المشهورة.

حكمة إخفائها:

وقد أخفي الله ليلة القدر عن الناس ولذلك حكمة بالغة، ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عُ ينت لها ليلة لأقتصر عليها، لكن لما أخفى تعيينها عن الخلق نشط المتقون في طلبها وشمروا لها، فهم يطلبونها من أول ليلة في الشهر الكريم، فإذا دخل العشر الأواخر اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأحيوا الليل كله وأيقظوا الأهل وشدوا المئزر وعكفوا على طلبها مكابدين الليل والنهار فحصل لهم من ذلك الخير العميم والثواب العظيم. وهم لا يبالون بما اختلف فيه الفقهاء في أي ليلة تكون ليلة القدر، فهم في كل ليلة مستعدون وبين يدي ربهم الجليل واقفون، طالبين الفضل منه والإحسان، فكيف يردهم الملك الجليل؟

أقوال العلماء في تحديدها:

قال الإمام ابن حج ر رض ى الله عنه في فتح الباري شرح صحيح ال بخاري إن للفقهاء في تحديد ليلة القدر أقوالا كثيرة، وقد أحصاها فبلغت ثمانية وأربعين قولا، وبعضها يمكنُ رده إلى بعض وان كان ظاهرها التغاير، ثم قال: وأرجح هذه الأقوال انها في وتر من العشر الأخير، وأنها تتنقل كما ي فهم من الأحاديث التي أوردها الإمام البخاري في ذلك الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ث لاث وعشرين، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.

(فتح الباري، ج 4، ص 30٨ وما بعدها باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.)

وقد فصلها الإمامُ النووي في شرحه لصحيح الإمام مسلم وأورد تلك الأقوال، فقال: «قال القاضي: واختلفوا في محلها، فقال جماعة: هي منتقلة تكون في سنة في ليلة، وفي سنة أخرى في ليلة أخرى، وهكذا، وبهذا يجمع بين الأحاديث، ويقال: كل حديث جاء بأحد أوقاتها ولا تعارض فيها، قال: ونحو هذا قول مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وغيرهم، قالوا: وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: بل في كله، وقيل: إنها معينة فلا تنتقل أبدا بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها، وعلى هذا قيل: في السنة كلها، وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وصاحبيه، وقيل: بل في شهر رمضان كله، وهو قول ابن عمر وجماعة من الصحابة، وقيل: بل في العشر الوسط والأواخر، وقيل: في العشر الأواخر، وقيل: تختص بأوتار العشر، وقيل: بأشفاعها. كما في حديث أبي سعيد، وقيل: بل في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين، وهو قول ابن عباس، وقيل: تطلب في ليلة سبع عشرة أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وحكي عن علي وابن مسعود، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين، وهو قول كثيرين من الصحابة وغيرهم، وقيل: ليلة أربع وعشرين، وهو محكي عن بلال وابن عباس والحسن وقتادة، وقيل: ليلة سبع وعشرين، وهو قول جماعة من الصحابة، وقيل: سبع عشرة، وهو محكي عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا، وقيل: تسع عشرة، وحكي عن ابن مسعود أيضا، وحكي عن علي أيضا، وقيل: آخر ليلة من الشهر، قال القاضي: وشذ قو م فقالوا: رفعت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحا الرجلان: (فرفعت)، وهذا غلط من هؤلاء الشاذين؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في السبع والتسع، هكذا هو في أول صحيح البخاري، وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها».

(أنظر النووي شرح مسلم ج ٨، ص 239، بَاب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالْحَ ثِ عَلَى طَلَبِهَا وَبَيَانِ مَحَلِ هَا وَأَرْجَى أَوْقَاتِ طَلَبِهَا).

بما يحصل قيامها:

أق ل القيام ما قال به الإمام الشافعي رحمه الله: من شهد العشاء والفجر ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها، واستحب أن يكون اجتهاده في يومها كاجتهاده في ليلتها.

وهي تعمر بالقيام بين يدي الله العظيم، وتلاوة القرآن الكريم، والذكر الحكيم والصلاة والسلام على النبي الأمين وكثرة الاستغفار والتوبة.

نسأل الله تعالى أن يكرمنا جميعا بهذا الفضل العظيم.

د. أسامة جادو

العميد السابق لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الزهراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى