د. أكرم حجازي يكتب: الحرب ضد شعب فلسطين وليست ضد حماس
كما انطلق الطوفان ليحدث مفاجأة صاعقة في الأرض دخلت مفاعيله كل وبر ومدر، كذلك الأمر فإن وقائع حرب الإبادة المحملة بأقسى قدر من الوحشية والقهر والألم والخيانة والحقد والانتقام.. ستسفر قطعا عن مفاجآت لا حصر لها. فالوقائع والشواهد والتداعيات أكبر من أن يحاط بها، حتى صرنا نستشعر، بخلاف العامة نسبيا، أن:
غالبية النظم الدولية والعربية تتحدث توراتيا
أصحاب الرأسمال يتحدثون توراتيا
الإعلام ووسائل التواصل يتحدثون توراتيا
الجامعات والمدارس ومراكز الأبحاث والدراسات تتحدث توراتيا
السياسيون والأحزاب والمنظمات الدولية يتحدثون توراتيا
شركات الصناعة والتجارة والاستثمار تتحدث توراتيا
الكنائس والكنس والمعابد تتحدث توراتيا
المحاكم الدولية والقضاء يتحدثون توراتيا
قوى الضغط على اختلاف مسمياتها وكينوناتها تتحدث توراتيا
كل هذا يحدث وسط غموض في الحديث عن «اليوم التالي».
فهل ثمة من يتحدث سياسيا؛ كي نتغلب على الغموض ونخرج من الحيرة، ونتنبأ بنهايات محتملة أو واضحة لحرب الإبادة هذه!!!؟
الواقع يقول لنا أن أميز ما في حرب الإبادة هذه أن خطاب الفاعلين فيها يبدو في ظاهره سياسيا، لكنه في الحقيقة خطاب عقدي، وبوقائع حربية توراتية وتلمودية صرفة. لكن بمصطلحات سياسية.
حتى الخطاب الأمريكي والأوروبي هو خطاب عقدي في صميمه. بل أن مفردات السياسة الغربية برمتها هي مفردات عقدية من صميم الكتاب المقدس والتلمود، فضلا عن أن بعضها جرى التعبير عنه صراحة!!! لذلك يشعر الناس والمراقبون بغموض غير مسبوق في وقائع الحرب من جهة، وفي مآلاتها السياسية.
ولما يكون ثمة غموض سياسي في مسارات حرب الإبادة، فهذا يعني أن هناك أهداف خفية تحتاج وقتا أطول لإنجازها. وبالتالي لا مفر من إطالة أمد الحرب.
أما تفسير الغموض وإطالة الحرب برغبة نتنياهو لتجنب ما سيدفعه من أثمان سياسية أو جنائية فهو تضليل في الصميم، حتى لو كانت له بعض المصداقية. فالغالبية الساحقة من الوسط السياسي فضلا عن المجتمع اليهودي مع استمرار الحرب والقتل بأقصى قدر من الألم كما عبر عن ذلك عميحاي الياهو صاحب اقتراح القنبلة النووية على غزة. بل أن الجيش يتصرف بتوجيهات توراتية صرفة في كل أفعالهم الحربية بحق الناس. كل هذه الوحشية تجري بموجب قواعد توراتية وتلمودية تجرد الفلسطيني من أية صفة إنسانية، ولا ترى بريئا في كل غزة.
وعليه فإن وقائع حرب الإبادة تستهدف كل السكان، ذكورا وإناثا، من الجنين حتى الطاعن في السن. بل وتستهدف حتى الحيوانات والشجر والحجر والبيئة والماء والهواء، عبر القتل والتدمير المباشر أو عبر قطع كل أسباب الحياة من الغذاء والدواء والماء والكهرباء والهواء، أو عبر تدمير أدوات ووسائل الصحة كالمستشفيات ومراكز الاستشفاء والوقاية والبنى التحتية، لإشاعة الأوبئة والأمراض والتلوث البيئي، ومحاصرة كل أسباب الحياة، بل وتدمير كل معالم الهوية والتاريخ القديم والحديث.
ولأنها حرب عقدية؛ فليس عجيبا أن يصرح الأمريكيون عديد المرات أنهم لم يجدوا دليلا واحدا على وجود إبادة، أو قولهم بأن أي حديث عن إبادة لا أساس له من الصحة! لأنها تجري بوحي واسترشاد من الكتاب المقدس. فهم متورطون بحرب عقدية مقدسة بالنسبة لهم، يعتبرون ما يرتكبونه من جرائم تقع في صلب الحقوق، ولا سيما ما يعتبرونه “حق إسرائيل في الوجود والدفاع عن نفسها”. فما تعتبره البشرية حرب إبادة، يعتبرونه حقوقا عقدية. وبالتالي ليسوا معنيين من قريب أو من بعيد بأية منظومات وضعية: قيمية أو أخلاقية أو قانونية أو حتى إنسانية، سواء كانت محلية أو دولية، رغم أن المخرجات الوحشية للحرب أنطقت الأرض ومن عليها.
مهما يكن في الأمر من غموض؛ فقد غدت غزة مقبرة لكل المرجعيات القانونية والإنسانية والقيمية والأخلاقية الدولية، ومقبرة للمربط العسكري اليهودي الذي يعيش منذ تأسيسيه على وقع التهديد الوجودي لأول مرة. ومقبرة للحريات المزعومة، ومقبرة للمنافقين وشلل النسويات والشذوذ والحرب على الفطرة وتحدي الله في خلقه. ولعلها ستكون مقبرة للنظام الدولي برمته بكل مرجعياته الأخلاقية والقانونية. بل مقبرة لكل تراث ما يسمى بعصر النهضة ومنتجاته.
لذا لا يصح الحديث أبدا عن خدعة المعايير المزدوجة، بل عن أنماط حياة عنصرية متوحشة تحاول الهيمنة على الأرض ومن عليها.
فبالأمس؛ غزوا عالمنا الإسلامي، وصادروا سلطانه، وفككوا الأمة، وفرضوا الأحكام الوضعية، وبرروا جرائمهم بقيم الحرية والعدالة والمساواة والتسامح وإرادة العيش المشترك باعتبارها قيما كونية.
واليوم يفرضون خرافة النوع الاجتماعي القائم على #التمرد_على_الفطرة باعتباره قيما كونية.
وغدا سيبررون حروب الإبادة المتوحشة والافلات من العقاب باعتبارها قيما كونية.
لكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. فكل الشواهد التي نراها من هذا العلو الكبير تنبئ ببشريات قاطعة أن مرحلة الزوال الحتمي قد انطلقت وقائعها مع الطوفان، لتصل كل أنحاء الأرض.
فلم تكن النكبة، منذ 75 عاما، موضع جدل وتحقق كما هي اليوم، ولم يكن زوال إسرائيل مطلبا كما هو اليوم. ولم يكن مطلب فلسطين من النهر إلى البحر شعارا في الأرض كما هو اليوم. ولم يكن القرآن الكريم والإسلام وأخلاق المسلمين وقيمهم موضع نظر وتدبر في الغرب كما هو اليوم. ولم كل منظومة الحقوق الدولية موضع استنكار برمتها ما هي اليوم. ولم تكن ما يسمى بقيم الحداثة موضع اشمئزاز كما هي اليوم. ولم تكن وسائل الإعلام الدولية موضع إدانة واتهام واستنكار كما هي اليوم. ولم تكن الأكاذيب والافتراءات وتزييف الحقائق موضع إدانة كما هي اليوم. ولم تكن البشرية برمتها لتشعر أنها في خطر ماحق إن لم تضع حدا لملة الشر كما هي اليوم. ولم تكن.