د. أنس الرهوان يكتب: صلح الحديبية.. الفتح المبين!
في شهر ذي القعدة، في السنة السادسة الهجرية، كانت هدنة الحديبية.
…
ما مِن حدثٍ في السيرة النبوية الجليلة، تداوَلَه الرواة أو سطرته أقلام المؤرخين، إلا وله أهميَتُه في عهد النبوة، وأثرُه المديدُ على طول الزمان.
وبعض تلك الأحداث محاورُ مركزيةٌ، تنتظم حولَها -قربًا وبعدا، مباشرةً ولزومًا- كثرةٌ كاثرةٌ من الحوادث والوقائع، ولا ينبغي تجاوُزُها دون تكرار قراءتها وسبْرِ أغوارها، والاستمداد منها للقلوب الكسيرة، كي تنهض وتنبض بالحياة تارةً أخرى، وللواقع المرير استصلاحا له وتأسيسا لبنيانه، كي يرتفع شامخًا في مواجهة أعاصير الباطل العتيد.
ومن أبرز تلك المحاور: “صلح الحديبية”، وكان نتاجًا لتعاقُبِ أحداثِ الشطر المكي، وطائفةٍ من وقائع الشطر المدني في العهد النبوي المبارك، وكان -أيضا- توطئةً لأمورٍ كثيرةٍ، تسارَعُ وقوعها في مستقبل الأيام حتى انقضى زمان النبوة، واستطال أثرُ ذلك الصلح ليملأ عرضَ الكون وطولَ الدهر!
كانت حياة المسلمين بمكة عصيةً على الاحتمال، لولا أن ثبتهم الله ﷻ ووطَّد بهم أركان دينه الحنيف، وكان رسولُ الله ﷺ لا يملكُ لهم كثيرَ شيءٍ يدفع به عنهم مضرَّةَ العذاب الذي يسومهم إياه قومهم، مع أنه ﷺ كان في منَعَةٍ من قومه، بالله ﷻ، ثم بعمه أبي طالب.
فكان خطابُ الشريعة موجَّها للناس بما يقتضيه حالُهم في تلك الأيام، وكان العملُ لدين الله مناطًا بما تاحَ للنبي ﷺ ولأصحابه رضي الله عنهم، من غير أن يكون ذلك عن تقصيرٍ منهم، فلم يكونوا مأمورين بالقتال -مثلا -، ومع هذا فقد أُمِر النبي ﷺ بالصدع بما أوحي إليه غير عابئ بملامة لائم، ولا باخع نفسه على أثَرِ مَن لم يهتَدِ بأنوار الحق أسفا.
وما سلكَ الإسلام طريقا إلى قلوب الناس، إلا قعَدَ له الكفار الطغاة بأَطرُقِه، يلتمسون الحيلولة بينه وبين الأفئدة العطشى لرواء الإيمان، والأرواحِ المظلمة تنشدُ قبسًا من نور الهدى والحق الأبلج، ولكن هيهات، يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
ولم تزل الأمور تتضايق، والكُرَب تشتد، حتى أسفرَ صبح الفرج مع أول إشراقة للإسلام في قلوب الأنصار، تلك الإشراقة التي اتسع مداها حتى ضاءت له يثربُ، فأصبحَتْ متنفَّسًا لأولئك القوم، الذين نالهم من النكال ما لو نزل بالجبال لأهاضها، ولو مسَّ الحديدَ الصلبَ لعاد ليِّنًا طَروقا.
هنالك أذن الله ﷻ لعباده بالهجرة، فتتابعوا إلى طيبة الطيبة أرسالا، جماعات ووُحدانا، فاتخذتْ حياتُهم هناك صورةً أخرى، هم اليوم أصحاب دولة وسلطان، ومنعة وأواصرَ شديدة الوثاق، وكان ما نالهم به أهلُ مكةَ مِرانًا لهم على صعاب الأمور وشديدات النوازل، وكذلك تنطوي المحن إذا نزلت بأهل الإيمان الصادق، على ما لا حدَّ له من المنح والهبات من الكريم الوهاب.
وفي تلك المرحلة استقبل المسلمون نمطًا جديدا من التشريع، ما بين فرائض تُفرض عليهم، وأمور تُنسخ تبعا لِما استجدَّ من مصالحهم، ومحاججة لأهل الكتاب، بعد ما كانت محاورات القرآن متجهة إلى كفار مكة، وغير ذلك، وكان من ذلك الجديد: أمرٌ طالما تشوفت له نفوسُهم، وطمحت إليه أبصارهم، ومُلئت قلوبهم رغبة منه، ألَا وهو الجهاد في سبيل الله، فلما كُتب عليهم، وجدوا لذلك ثقلا في نفوسهم!، فعاتبهم المولى عز وجل، فارعووا وثاب إليهم رشدهم.
بدأ النبي ﷺ يعقد ألوية الجهاد وراياته بسرايا متفرقة، ثم حمي الوطيس وقامت المغازي الكبار، واستعَرَت الحرب بين الفريقين زمنًا غير قليل، وكانت فيما بين ذلك أمورٌ كثيرة، حتى كانت غزوة الخندق، التي كانت الفيصل بين كفار مكة وبين أن يغزوا المسلمين.
ثم مضى الزمان، وخرج النبي ﷺ بالمهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب، قاصدا بيت الله الحرام للعمرة، لا يريد حربًا، فما هو إلا أن أوجسَ الكفار منهم ذلك الخبر، وأحسوا تلك الرغبةَ، حتى جهزوا عدتهم وعتادهم لصدِّ تلك الزمرة الطاهرة عن المسجد الحرام، وذلك عارٌ حتى على رسم الجاهليين وشرعتهم الباطلة، ولكن حمية الجاهلية تمادت بأولئك القوم وبلغت بهم غاية السفه والضلال!
لكن رسول الله ﷺ سارَ مسيرَه المنشود لا يلوي على شيء، بيد أن ما يقضي اللهُ أسبق، إذ لم تُجاوِز راحلتُه ﷺ حدودَ الحرم، فعرفَ أن هذا شيءٌ يراد، وأعدَّ له عدتَه النفسية، مسلِّمًا لربه ﷻ، مذعنا لقضائه، معظما لحرماته.
فتناوَبَ عليه رسُل أهل مكة يجاذبونه الأحاديث، وهو يجيب كلًّا منهم بما ينبغي، وفي خلال ذلك أرسلَ عثمان بن عفان رضي الله عنه سفيرا بينه وبينهم، فبلَغَ المسلمين خطأً مقتلُه، فتبادروا البيعةَ المباركة التي حازوا بها الرضى من الله تبارك وتعالى، وكانت تلك أولَى ثمراتِ ذلك اليومِ العظيم.
ثم انطلق سهيل بن عمرو رضي الله عنه -قبل إسلامه- رسولا من قريشٍ إلى المسلمين، فشارطَهم شروطًا ما كان لها أن تقعَ منهم غيرَ موقعِ الرفض والاطِّراحِ بلا مثنوية، إلا أن النبي ﷺ عاقدَه على ما شرَطَ، وأوقَعَ الصُّلحَ أولَ ما أوقعه على أبي جندل رضي الله عنه، ابنُ سهيل بن عمرو، الذي خرج موثَّقا بقيوده هاربا من إسار الكفر فارًّا بدينه إلى الله!
فلما وفى النبي ﷺ بشرطِ سهيلٍ في ابنِه أبي جندل، ذهبَ الغمُّ بالمسلمين كلَّ مذهبٍ..
ولا يذهب على مَن له أدنى اطلاع على كتاب الله الكريم، أو مدونات السيرة النبوية أن النبي عليه الصلاة والسلام خُوطبَ بالأمرِ بالشورى، وقد كان له منها في مغازيه حظٌّ وافرٌ، في بدرٍ وأحد والخندق، وفي ما سوى المغازي من أمور الناس، وكان له منها في هذه الرحلة سهمٌ أيضا، إذ استشار أصحابَه قبلَ المضي في دربه، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه بالانطلاق لا مُخالف له من الصحابة، فانطلق مستظلا ببركة الله.
إلا أنه حالَ عقْدِ تلك الهدنة لم يُذكَر أنه شاورَ أحدا منهم ولا استأمرَهم في شيء، بل أمضى الصُّلْح على كُرْهٍ منهم، حتى كاد صبرُ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه يعزُبُ عنه، وقد قال سهل بن حنيف رضي الله عنه في زمانٍ لاحق: يا أيها الناس اتهِموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني يومَ أبي جندلٍ ولو أقدر أن أردَّ على رسول الله ﷺ أمرَهُ لَرددتُ..
تلك نافذةٌ تبصر منها -أيها القارئ العزيز -شدة وطأة الأمر على نفوسهم!
ولكنْ ما كان ذاك الفعلُ من رسول الله ﷺ استبدادًا بالأمر دونَهم -حاشاه ﷺ -، بل كان بصرًا بالغيب، ونظرًا لأصحابه رضي الله عنهم، وإنفاذًا لِمصالحَ هي خيرٌ لهم مما التمسوا، فإنهم بعد الهجرة وحيازة الشوكة وتتابُع التمكين لهم -أو معادلتِهم لأهلِ مكة في ميزان القوى سنينَ عددًا -أنِفوا أن يكونوا هم الأقلِّين، ورفضوا أن يُعطَوُا الدنية في دينهم، وحميَتْ نفوسُهم أن تكون شروطُ العقد على خلاف ما يرغبون.
ولكن رسولَ اللهِ ﷺ مع كرامة الله تعالى له بالنبوة والوحي – كان أرجح الناس عقلا، وأحدَّهم نظرا، وأثقبَهم رأيا، وأنفذَهم خلالَ سجفِ الغيب بصيرةً، وأحرصَهم على ما ينفعهم من أمور دينهم ودنياهم على حدٍّ سواء، وكان أمرُه فيهم دائرا بين شورى معهم وبين نظرٍ لهم، فما أعظم شوراه وما أسدَّ نظره، صلوات الله وسلامه عليه!
ولأن أبا بكرٍ رضي الله عنه كان أكملَ الناس -خلا النبيين -نفسا، وأتمهم عقلا، وأعظمهم إيمانا، وأغزرهم اضطلاعا بالوحي، فقد كانت كلمتُه لعُمرَ رضي الله عنهما طِبقَ كلمة رسول الله ﷺ سواء بسواء، مِن غير أن يكون سمع منه حرفا في الأمر، وذلك من أثر الصحبة المباركة، ووشيجة المحبة الخالصة، التي يرفدُها الوحي المبين، والنور الذي امتلأ منه القلب حتى فاض على الجوارح قولا وفعلا!
ولو أن المسلمين اعتمروا يومئذ، لانقضت الأمورُ على ذلك، ولكن ما هو إلا أن فرغوا من ذلك الشأن وسلكوا طريق العودة، حتى أنزل الله ﷻ على رسوله ﷺ: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}، فبلغ التعجب من نفسِ عمرَ رضي الله عنه مبلغَه، بكون ذلك الأمر الذي ضاق له صدرُهُ فتحًا من رب العباد وفرَجا لهم، وقرَّتْ عينه وطابت نفسه.
ومذ ذلك الحين، تطور سيرُ الدعوة والجهاد تطورا هائلا، وانطلق الإسلام، حاملًا في إحدى يديه قلمَه وكتابَه رسائلَ نبويةً إلى الملوك داعيا لهم إلى الله، وبالأخرى منتضيًا سيفًا ورمحا يقاتلُ أعداءَه الراسخين في معاداته.
وبدأت الشروطُ الجائرةُ في تلك الهدنة تنتقضُ على أهلها كما ينتقض البنيان حجرًا حجرا، فهاجرت أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها، وأنزل الله تحريم عودةِ المؤمنات إلى الكفار، وخرج أبو بصير رضي الله عنه، فاجتمع له الفارُّون بدينهم وقطعوا على أهل مكة طرُق القوافل حتى تنازلوا عن شرطٍ بائرٍ من شروطهم.
وقضى المسلمون عمرتَهم مِنْ قابلٍ، وفتح الله ﷻ على المسلمينَ خيبرَ، التي كانت قاصمةَ الظهر لليهود وأشياعهم، ونال المؤمنينَ منها خيرٌ وفيرٌ عميمٌ، حتى أن المهاجرين بعدها استقلُّوا بعَيشهم، واستغنوا عن معونة إخوانهم الأنصار، رضي الله عن الجميع.
وأسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، عليهما رضوان الله، ولا يخفى ما لهما من بلاء حسن في الإسلام وغَناء لأهله.
وامتد ضَبْحُ خيول الإسلام حتى بلغ بلاد الروم في المعركة الخالدة “مؤتة”، وكان ذلك إرهاصًا لعظيماتٍ من الأمور وسلسلةٍ من المعارك بعدُ.
ثم حملُ كفارُ مكة معاولَهم وهدموا بنيانهم على رؤوسهم، ونقضوا بيعتهم بأيديهم لما غدروا بحلفاء المسلمين، فتداعت أركان الهدنة وتهيأ المسلمون لاستردادِ مهبط الوحي ومرتع الصباء وملاعب الشباب وموطن الذكريات حلوةً ومرة.
وانطلقت جيوش الإيمان والحق، عشرة آلاف مسلم ومؤمن، بعد أن كانت في الحديبية لا تزيد عن ألف وبضع مئة رجل، وفي غضون سنتين حسبُ، ميممةً صوبَ البلدة المعظمة التي ما حلَّ غزوُها لإنسيٍّ خطَتْ قدماه على البسيطة إلا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه ساعةً من نهار، فلما وصلَ إليها وفتحها الله عليه، أخذت سحائب الكفر تنقشع عن جزيرة العرب شيئا فشيئا، يبددها ضوء الدين الحق، ويضوِّعُ أرجاءها عبيرُ الحنيفية السمحة.
ثم دخل الناس في دين الله أفواجا، وكان بعد ذلك الحج الأكبر، الذي رسخت فيه معالم الشريعة أصولا وفروعا، وكُتب بها الفصل الأخير في حياة النبي ﷺ على الأرض، ولم يطل بعدها لبثُه في الدنيا حتى لحق بالرفيق الأعلى!
فأنت هنا ترى كيف أن غزوة الحديبية كانت من أكبر أحداث السيرة النبوية، وأنها كانت ثمرة لما قبلها وغراسا لما بعدها، فأنت حين تنظر إلى موقعها في خط حياة النبي ﷺ، تجدُها وقعت على حالٍ من تهاوِي عزائم المشركين وتضعضُع بنيانهم، وقد كان فيهم قبلها قوة وعافية، فما زالت تتناقص حتى تهدمت بعد الحديبية، في مقابل تصاعد حال المسلمين بعد طول الاحتراب مع مشركي قريش ومَن عاونهم.
فكانت الحديبية حائلا بين الفريقين، وفرجةً انفسحت للمسلمين كي ينطلقوا دعاة ومجاهدين، في مساحات أوسع مما كان ممكنا لهم قبلها!
والله تعالى أعلى وأعلم.