أقلام حرة

د. أنس الرهوان يكتب: في ذكرى أمنا خديجة رضي الله عنها

كانت أمنا خديجة رضي الله عنها حسيبةً نسيبة، رفيعة القدر في قومها.

  • أبوها: (خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي)، من أشراف مكة وأثريائها وفرسانها.
  • وأمها: (فاطمة بنت زائدة بن الأصم القرشية العامرية)، من بني عامر بن لؤي.

وكان لها بسيدنا رسول الله ﷺ قرابة من جهات شتى.

  • فالجدُّ الجامع بينهما: (قصي بن كلاب).
  • كما أن عمَّتَها (أم حبيب بن أسد) = جدةُ السيدة آمنة بنت وهبٍ أمِّ رسول الله ﷺ.

وكان جدُّها (أسد بن عبد العزى) متزوجا بإحدى بنات هاشم بن عبد مناف، وهي (خالدة بنت هاشم).

وكانت امرأة شريفةً، عفيفةً، وكانت تدعى في الجاهلية: “الطاهرة”، وكانت ذات مالٍ وتجارة، وكان رجالُ قومها حريصين على الزواج منها لتلك الخصال: النسب والشرف والعفة والمال.

وكانت قبلَ زواجها من رسول الله ﷺ عند رجلٍ اسمه (أبو هالة بن زرارة التميمي)، ولها منه من الأولاد: (هالة)، و(هند) صاحب أشهر حديثٍ في وصف حِلْيةِ رسول الله ﷺ وشمائله، و(الحارث) أولُ شهيدٍ في الإسلام من الرجال، و(الطاهر)، و(الزبير)، وكلهم رجال، ثم هلك عنها أبو هالة.

وتزوجها بعده (عتيق بن عابد المخزومي)، فولَدت له (هندَ بنت عتيق بن عابد)، وهي امرأة، تزوجها ابنُ عمها (صيفي بن أمية بن عابد)، فولَدتْ له (محمدَ بنَ صيفي)، وذرية محمدٍ هذا يُقال لهم: “بنو الطاهرة”، لأنهم أحفاد خديجة رضي الله عنها!

ثم تزوجها رسول الله ﷺ، وكانت هي التي بادرَته بطلب الزواج، لشرفه وأمانته، وعظيم أخلاقه وشمائله – مع رغبة رجال قومها في الزواج منها -، وإنما كان الله ﷻ يهيئُ أحدهما للآخر، ووَلَدَت له ﷺ: (القاسم)، و(زينب)، و(رقية)، و(أم كلثوم)، و(فاطمة)، و(عبد الله)، رضي الله عنهم وأرضاهم، ولم يولد لها في الإسلام سوى (عبد الله بن رسول الله ﷺ).

ولم يكن يسامتُ بيتها في الإسلامِ بيتٌ من بيوت الصحابة الكرام، بل ولا كثيرٌ من بيوت الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، فإنه لم يجتمع سادةُ كلِّ جنسٍ من الناس في بيتٍ واحد كما اجتمعوا في هذا البيت المبارك العظيم.

فزوجها: (رسول الله ﷺ) سيد خلق الله وأكرمهم على الله ﷻ.

وهي: أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين وإحدى كوامل النساء. وبناتها: خيرات بنات الأنبياء، وفيهن (فاطمة الزهراء) سيدة من سيدات نساء أهل الجنة.

وأحفادها (الحسن) و(الحسين) سيدا شباب أهل الجنة.

ومن أصهارها (عثمان بن عفان) و(علي بن أبي طالب) رضي الله عنهما، سيدا خلق الله بعد النبيين وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما!

وكان لها أقرباء مشهورون، وآخرون غير مشهورين كثيرا، وآخرون مشهورون لكن قرابتهم بها غير مشهورة.

  • فمن مشاهير أقربائها:
  • (هالة بنت خويلد) رضي الله عنها، التي طرقت بابَ رسول الله ﷺ فارتاع وقال: اللهم هالة!
  • و(الزبير بن العوام بن خويلد) رضي الله عنه وإخوته، أبناء أخيها.
  • و(حكيم) و(خالد) رضي الله عنهما، ابنا حزام بن خويلد، ابنا أخيها.
  • و(أبو العاص بن الربيع)، ابن أختها هالة، وزوج ابنتها (زينب بنت رسول الله ﷺ)، ورضي الله عنهم.
  • و(ورقة بن نوفل) رضي الله عنه، ابن عمها.
  • ومن غير المشاهير من أقربائها:
  • (رقيقة بنت خويلد) رضي الله عنها.
  • و(عدي بن نوفل بن خويلد) رضي الله عنه، ابن أخيها.
  • و(أميمة بنت عبد بن بجاد التميمية)، رضي الله عنها، وهي بنت رقيقة بنت خويلد.
  • ومن المشاهير الذين لم تشتهر قرابتهم بها:
  • (عمرو بن أم مكتوم) رضي الله عنه، المذكور في سورة “عبس وتولى”، وهو ابن خالها.

ولها أخ اسمه (نوفل بن خويلد)، كان كافرا شديد البأس على المسلمين!

ولقد كان عندها خبرٌ عتيقٌ عن نبوة رسول الله ﷺ.

فقد كانت تسمع من ورقة بن نوفلٍ شيئا من ذلك.

وكانت يومًا مع نساء قومها في عيد من أعيادهم، فوقف عليهن رجلٌ، فنادى فيهنَّ أن نبيًّا سيُبعَث عما قريب، ويحضُّ من استطاعتْ منهن على الزواج به، فزجَرَتْه النسوة، وأغضت خديجةُ على قوله وجعلتْهُ نديمَ خاطرها، حتى اصطفاها الله لتكون زوجة سيد الخلق ﷺ.

ولذا، لما تلقى رسولُ الله ﷺ بوادر الوحي، ورجع إليها خشيَ على نفسه، ثبَّتَتْه وبشَّرتْه، وذكَّرتْه بمحامده وجميل أخلاقه وخصاله، ووعدته أن لن يخزيه الله، وانطلقتْ به إلى ابنِ عمها العالم بالنبوات، ولم يخالجها فيه شك أو ريبة، ولم يخطر لها أن يكون ممسوسا أو مريضا -حاشاه ﷺ-، ولم تذهب به إلى راق أو كاهن، بل ذهبت به إلى صاحب العلم بالأنبياء، فأخبرهُ خبَرَه وأن قريشا سيُعادونه ويخرجونه، وتمنى أن يكون له ناصرًا في أمره، ثم كانت هي أول خلق الله ﷻ إيمانا به وتصديقا لما جاء به، لم يسبقها إليه من البرايا أحدٌ.

ثم لم يكن على ظهر البسيطة مذ أنشأها الله تعالى – امرأةٌ خيرًا منها لزوجها، ولا أعظم إيمانا، ولا أحسن عشرة، ولا أكرم نفسا، ولا أسخى يدا، ولا أفعَم عاطفة ومحبة، ولا كان في بيوت الناس بيتٌ كالبيت الذي اكتنفها وزوجَها سيدَنا محمدًا ﷺ، إلا أن تكون بيوت الأنبياء عليهم السلام ونسائهم.

وكانت له معينا ووزير صدق في حياته وفي دعوته إلى الله.

تجود بكل ما تملك، نفسا، ومالا، ومتاعا، مدفوعة إلى ذلك بدافع الرضى وطيب النفس.

لا تسخط ولا تتبرم.

ولا تنتظر سؤالا أو طلبا.

ولا يعتريها الندامة والحسرة على ما تبذل لزوجها صلوات الله وسلامه عليه.

حتى أنه كان يهون عليه ما يلقى من قومه إذا دخل عليها بعد يوم عصيب، فتحادثه وتخفف عنه وتبشره، فيلقي عن ظهره وزرَ الألم والتعب الذي يناله من قومه وعشيرته.

ولما حُصر المسلمون في شعب بني هاشم، على أثر تلك الدعوة الظالمة من قريش ألا يعاملوهم في تجارة ولا نكاح ولا غيره، كانت خديجة رضي الله عنها تبتاع الميرة سرا ويؤتى بها إلى الشعب، يَطعَمُ منها النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، حتى أنفذ الله أمره وانتقضَتْ تلك الصحيفة الجائرة، بيدَ أن خديجة رضي الله عنها كانت قد التحقت بركاب الخالدين في أعلى عليين.

وكان ذكرها حاضرا في قلب رسول الله ﷺ أبدا.

يثني عليها ويذكر أنه رُزِق حبَّها.

ويقسم الذبيحة بين صديقاتها.

ويحتفي بأضيافه الذين كانوا يأتونه في زمانها.

ولما طرقت أختها بابَه، ارتاع وذكَرَها، لأن الطرقَ كان يشبه طرْقَها!

ومع أنه لم يشرك معها زوجةً ولم يتخذ لها ضرة، إلا أن أمنا عائشة رضي الله عنها كانت تغار منها من كثرة حضورِ اسمها على لسان رسول الله ﷺ، فعَذَلَتْه يوما في ذكرها، وأخبرته أن الله أبدله خيرا منها، فقال ﷺ: “كلا والله، ما أبدلني الله خيرا منها”، وذكر أنها صدقَتْه إذ كذَّبه الناس، وواسته بنفسها ومالها وقد حرمه الناس، ورزَقَه الله منها الولد وحَرَمه الولدِ من غيرها.

وتضافرت نصوصٌ شتى بسناء درجتها وارتفاع مكانتها.

جاء عن النبي ﷺ أنه لم يكمل من النساء سوى أربع نسوة، هي إحداهن.

ووُصِفَت بأنها خير النساء مع مريم بنت عمران عليهما السلام.

ولم يوصف بالكمال امرأتان في أمةٍ واحدة سوى هي وابنتِها فاطمة عليهما السلام والرحمة.

وأقرأها جبريل عليه السلام – من الله ﷻ السلام، فكان من فقهها رضي الله عنها أن قالت: إن الله هو السلام، ومنه السلام، وعليك وعلى جبريل السلام.

وبشَّرها الحق عز وجل على لسان جبريل عليه السلام – ببيتٍ في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، إذ كانت قد حازت قصب السبق إلى الله ورسوله، ولم تصخب على رسول الله ﷺ يوما ولا ناله منها نصبٌ يوما من الدهر!

سلام الله عليها ورحمته وبركاته ورضوانه.

د. أنس الرهوان

طبيب، كاتب وباحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى