موسم الحجِّ في تاريخ الإسلام ليس مقصورا على فريضة الحج مع عظمتها وبهائها، بل كان فيه من الأحداث الكبار ما هو مسطور في الكتب بحروف من نور وجمال.
ومن تلك الأحداث الجليلة: أن رسولَ الله ﷺ بعدما رجعَ من الطائف، كان يعرضُ نفسَه على قبائل العرب في مواسمهم، يدعوهم إلى الله ﷻ وإلى الهدى ودين الحق، فتختلف إجابتُهم إياه صلوات الله وسلامه عليه.
فقد رآه شابٌّ اسمه ربيعة بن عباد، رآه بمنى في أحد مواسم الحج، يدعو إلى الله تعالى، وخلفَه رجلٌ موصوفٌ بالجمال والحسن، يصُدُّ الناسَ عن دعوته الشريفة، فسأل ربيعةُ أباه عن الرجل الذي يتبعُ رسولَ الله ﷺ ويكذِّبُه على ملأ الناس، فقال له: هذا عمُّه عبدُ العزى بن عبد المطلب -أبو لهب-!
وعرضَ دعوته على قوم يقال لهم: بنو عبد الله، وكان يقول لهم: إن الله قد أحسنَ اسمَ أبيكم، فلم يقبلوا دعوته.
وعرضَ نفسه على بني حنيفة، فلم يكن أحدٌ من العرب أقبحَ ردًّا عليه منهم!
وعرض نفسه على بني قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فساوَرَتْ أحدَهم نفسُه أن يستجيب لدعوته ﷺ طمعا في أن يستولي على العرب، فذهب إلى رسول الله ﷺ وسأله: أيكون لنا الأمرُ من بعدك؟ فقال له ﷺ: الأمر إلى الله يضعُه حيث يشاء، فرفضَ ذلك الرجلُ دعوةَ الإسلام لهذا السبب!
فلما عاد بنو عامر بن صعصعة، سألهم شيخٌ لهم كبيرٌ في السن عما كان في موسمهم، فأخبروه بما قال لهم رسول الله ﷺ، فوَضع الشيخُ يده على رأسه تلهُّفًا على قومِه إذ لم يستجيبوا لدعوة الحق، وقال لهم: والذي نفسي بيدِه ما تقَوَّلَها إسماعيليٌّ قط، فأينَ رأيكم كان عنكم؟! (يعني: لم يدَّع النبوة رجلٌ من بني إسماعيل عليه السلام)
وكان رسول الله ﷺ لا يسمع برجلٍ له شرفٌ في العرب، إلا تصدى له ودعاه إلى الله ﷻ.
…
وقدمَ رجلٌ من الأوس اسمه: سويد بن الصامت، وهو ابن خالة عبد المطلب بن هاشم، حاجًّا أو معتمرا، وكانت العرب تسميه “الكامل”، فلقيَه رسولُ الله ﷺ فعرض عليه الإسلام، فاستحسَنَ ما سمع، ولكن لم يُسلم في تلك اللحظة، ثم رجع إلى المدينة، فقُتل في معركة اسمها “بُعاث”، وهي خاتمةُ سلسلةٍ طويلة من المعارك بين الأوس والخزرج، فكان بعضُ قومِه يقولون: إنه قُتِل مسلما!
ثم أراد الله ﷻ بالأنصار خيرا، فلقيَ رسولُ الله ﷺ نفرا منهم عند العقبة الكبرى، في موسم الحج سنة ثمانٍ من مبعثه الشريف، قبل هجرته بسنتين وأشهر، فدعاهم إلى الإسلام، وكانت اليهودُ جيرانَهم في المدينة، وكانوا يسمعون منهم أخبارَ النبيِّ الذي يُبعثُ في آخر الزمان.. فلما عرضَ النبيُّ ﷺ عليهم دعوته، علموا أنه هو النبيُّ المنشود، فأسلموا وصدَّقوا، وقبِلوا دعوةَ الخيرِ، ورجعوا إلى قومهم ليَعرضوا عليهم دعوةَ رسول الله ﷺ.
واختُلف في عددهم وتعيينهم، فقيل: ستةُ نفرٍ كلهم من الخزرج، وقيل: ثمانية، من الأوس والخزرج.
والقائلُ إنهم ثمانية، يذكرُ فيهم: عبادة بن الصامت، وأبا الهيثم بن التيهان، وعُويم بن ساعدة، وهؤلاء الثلاثةُ -حسب هذه الرواية- شهدوا هذا اللقاء، وشهدوا بيعة العقبة الأولى بعد ذلك اللقاء بسنة، وشهدوا بيعة العقبة الثانية في السنة التي بعدها، ثم شهدوا مغازيَ رسولِ الله ﷺ جميعها، ولم يدرك أحدٌ من الأنصارِ هذه المنقبةَ سوى هؤلاء الثلاثة!
وكان لعبادة وأبي الهيثم منقبةُ زائدة لم تكن لعويم، وهي أنهما كانا من النقباء الذين عيَّنهم رسول الله ﷺ على أقوامهم في بيعة العقبة الثانية.
…
وبعد اللقاء الأول بين رسول الله ﷺ وبين طليعة الأنصار بعام، حضرَ موسمَ الحج اثنا عشَر رجلا من الأنصار، تسعةٌ من الخزرج وثلاثة من الأوس، فبايعوا رسول الله ﷺ على البيعة المذكورة في آخر سورة الممتحنة، وتسمى “بيعة النساء”، لأن الحرب لم تكن فُرِضت حينئذ، ولم تكن ثَمَّة مبايعةٌ على القتال.
وعلى أثر هذه البيعة، بعثَ رسولُ الله ﷺ مصعبَ الخير بن عميرٍ رضي الله عنه سفيرا إلى أهل المدينة بالإسلام والقرآن، وكان أول سفراء الإسلام، وعلى يده وببركة دعوته، انتشر ضياءُ الإسلام بالمدينة وأينَعَتْ ثمرتُه المباركة.
…
وفي موسم الحج سنة عشر من المبعث النبوي المبارك، خرج وفدُ المدينة حُجَّاجا، مسلمين ومشركين، وكان المسلمون اثنين وسبعين رجلا وامرأتين، وكانوا يستخفون بإسلامهم من المشركين.
وكان من المسلمين: البراء بن معرور، أحدُ أشياخِ الخزرج وساداتهم، وكان رأى رأيًا من عند نفسه: أن يصليَ إلى الكعبة الشريفة، ولا يجعلها إلى ظهره، حيث كانت القبلةُ إلى بيت المقدس، فلم يوافقْهُ قومُه، فكانوا يصلون إلى بيت المقدس، ويصلي إلى الكعبة، فلما لقوا رسولَ الله ﷺ بمنى، ومعه عمه العباس رضي الله عنه، سأله إن كان يعرفهم، فعرَّفَه العباسُ بالبراء بن معرور، وأنه سيد قومه، ثم عرَّفه بكعب بن مالك رضي الله عنه، فقال رسولُ الله ﷺ: “الشاعر؟!” يقول كعب: والله ما أنسى قولَ رسول الله ﷺ “الشاعر”!
ثم سأله البراءُ عما صنع، فقال ﷺ له: “قد كنتَ على قبلةٍ لو صبرتَ عليها”! فعاد للصلاة إلى بيت المقدس حتى مات رضي الله عنه.
وقد كان ممن خرج إلى الحج مشركا: عبدُ الله بن عمرو بن حرام، والدُ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، شيخ كبير، وسيدٌ من سادات الخزرج، فدعاه قومُه إلى الإسلام، وخافوا عليه أن يكون حطبا للنار! فأسلم وبايَع بيعة العقبة، وكان ممن عيَّنَهم النبيُّ ﷺ نقباء على قومهم، وخرج فيما بعدُ إلى أُحد، وكان أوَّل شهدائها البررة، وظلَّلَتْه الملائكة بأجنحتها حتى رُفع إلى قبره، وأحياه الله ﷻ بعد موته وكلَّمَه كفاحا، كما ورَدَت بذلك النصوصُ!
ثم وَقَعَت بيعةُ العقبة الثانية، وهي من أجَلِّ وقائع السيرة النبوية، إذ هي نقطةُ تحوُّلٍ في مسار الأحداث في ذلك العهد تحوُّلًا هائلا.
قال كعب بن مالك رضي الله عنه عن هذه البيعة: ما أُحِبُّ أنَّ لي بها مشهَدَ بدر! (يعني أنه يفضِّلها على غزوة بدر)
اجتمعَ الأنصارُ المسلمون رجالا ونساء إلى رسول الله ﷺ، ومعه عمُّه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قبل أن يُسلم، فخاطَبَ العباسُ الأنصارَ، وأخبرهم أنَّ رسولَ الله ﷺ في عزٍّ من قومه ومَنعة في بلده، وأنه أراد الانحيازَ إليهم، فإن كانوا يقدرون على الوفاء ببيعتهم له، فهُم وما تحمَّلوا، وإلا فلْيَدَعوه في بلده..
فسألَ الأنصارُ رسولَ الله ﷺ أن يطلبَ منهم ما شاء، لنفسه ولربِّه.
فبايعهم ﷺ على أن يمنعوه مما يمنعون منهم نساءهم وأبناءهم -أي يحموه-، فقبِلوا تلك البيعة.
وأخبرَه أبو الهيثم بن التيهان أن بينهم وبين اليهود حبالا من العهود، وأنهم سيقطعون تلك الحبال، وخشيَ أبو الهيثم أن يكون رسولُ الله ﷺ إذا فتح اللهُ له البلادَ وانتصرَ على قومِه أن يغادرَهم ويعود إلى مكة، فطمْأَنَه ﷺ وقال له: “بلِ الدمَ الدم، والهدمَ الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارِبُ مَن حارَبتُم، وأُسالِم مَن سالَمْتُم”.
فانتمى صلوات الله وسلامه عليه إليهم، ووَالاهم من تلك اللحظة المباركة!
وأمرَهم أن يُخرِجوا إليه اثنيْ عشرَ رجلًا منهم، يكونون نقباء على قومهم.
وقد كان رجلٌ من الخزرج اسمه: العباس بن عبادة، قال لقومه قبل عقد البيعة:
هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حربِ الأحمر والأسود من الناس (يعني: العرب والعجم).
وأخبرهم أنهم إن كانوا سيخذلونه إذا قُتِل أشرافُهم ونُهِكَت أموالهم، فلْيتركوا بيعته، لئلا يبوؤوا بخزي الدنيا والآخرة، وإن كانوا سيَفُون له بما بايعوه، فلْيأخذوه، فهو خير الدنيا والآخرة.
فقالوا: إنا نأخذُه على مصيبة الأموال وقَتْلِ الأشراف!
ثم سألوه: ما لنا إن نحنُ وَفَينا بذلك؟
قال ﷺ: “الجنة”.
قالوا: ابسط يدك..
فبَسَط يده الشريفة، فبايعوه رضي الله عنهم!
ثم قالوا: لئن شئتَ لنَميلَنَّ على أهل منى غدا بأسيافنا!
فقال لهم: لم نؤمر بذلك، وأمرهم أن يرجعوا إلى رحالهم.
…
وسمعَت قريشٌ بالخبر، فأتَوْا الخزرجَ في منازلهم بمنى، وأخبروهم بما سمعوا من البيعة، فأخذَ المشركون من الخزرج يحلفون بالله ما وقَع شيءٌ من ذلك ولم يسمعوا بشيء.
ثم نفرَ الناسُ من منى، وكانت قريشٌ تدقِّقُ في خبر البيعة، حتى تأكدوا من وقوعها، فخرجوا في طلب الأنصار الذين أسلموا وبايعوا، فأدركوا رجلين: المنذر بن عمرو، وسعد بن عبادة، رضي الله عنهما.
فأما المنذر، فهرَب ولم يلحقوا به، وأما سعد، فأخذوه، وربطوا يديه، وأدخلوه إلى مكة، وأقبلوا عليه ضربًا!
فأمرَه أبو البختري بن هشام أن يهتف باسم جبير بن مطعم، والحارث بن حرب بن أمية، وكانا إذا قدِما المدينة في تجارة، يدخلان في جوار سعد بن عبادة، فهتفَ باسمهما، فذهب أبو البختري إليهما، وأخبرهما بخبره، فقاما إليه وخلَّصاه من أيدي القوم الذين أنهكوه ضربا، وكان هو الأنصاريَّ الوحيدَ الذي أصابه الضربُ من قريش!
…
وعلى أثر تلك البيعة المباركة، أذن الله ﷻ للمسلمين بالهجرة، فخرجوا زرافات ووُحدانا، حتى خرج سيدُهم وصفوة الخلقِ ﷺ مهاجرا..
وكان بعد الهجرة ما كان!
صلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد، ورضي عن سادتنا الأنصار وأرضاهم.