لو بعث الله الإمام الشافعي رحمه الله لعاد بطبعه مجددا، حتى لمذهبه الفقهي، لأنه يؤمن أن الحياة متجددة.
ولو بعث الله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لعاد بطبعه مجددا، حتى لأفكاره وآرائه، لأنه يؤمن أن واجب العلم التجديد.
ولو بعث أي مجدد من مجددي الأمة السابقين لما وسعه غير التجديد.
حتى مؤسسي الحركات والمدارس الدعوية والإسلامية، كمحمد بن عبد الوهاب وعبدالحميد بن باديس وحسن البنا، فالتجديد في الوسائل والمسالك العملية أولى من التجديد في المذاهب الفقهية والمناهج الفكرية.
وإحدى أهم حجج الصد عن اتباع النبي المجدد في كل زمان التمسك بشرعة ومنهاج النبي السابق، على ما لحقها من تقادم وانطماس وانحراف، حتى أن أنبياء بني إسرائيل (الذين تتابع فيهم الأنبياء) كانوا يجدون مشقة في إيمان قومهم برسالتهم الجديدة. وقد واجه يحيى ابن زكريا من يهود ما واجه، وفي حين كذب يهود عيسى عليه السلام تعنتوا مع يحيى!
ومقاومة التجديد خلق ودأب الأولين، ولهذه المقاومة أسبابها الطبعية والنفسية والعقلية والاجتماعية والسياسية.
وإذا كان التجديد هو الباب الذي أغلقه الجامدون والمتعصبون والخائفون على مكاسبهم المادية والمعنوية من البناء التاريخي والمخزون العاطفي، فإنه الباب ذاته الذي كسره بعض الخبثاء لفتنة الأمة وإضلالها عندما رأوا أن الأمة تتطلع لربيع قادم أوصدت دونه الأبواب، لأن الباب إذا لم يفتح على علم ويغلق على علم كسر. وقد كان دون الأمة باب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وفي اعتباره بابا ملحظ جميل وهو أنه منفذا لا جدارا مصمتا وسدا معتما، وقد كان عمر فقيها يحسن الفتح ويحسن الغلق، ومثلت اجتهاداته رضي الله عنه ميراثا خصبا لفقهاء الأمة بعده في الأمور التجديدية نهجا وفكرا وأطرا ومسلكا.
وغاية التجديد أمران:
– تقديم الخطاب الديني بمضامينه ومعانيه وقيمه ومقاصده وأحكامه لكل جيل بلغة عصرهم بما يبلغ عقولهم وما هم عليه من ثقافة وعلم، دون تحريف وتدليس وتلبيس.
– إعادة الصدارة الفاعلة للشريعة بفقه يمد ظلالها للزمن الجديد، إذ صلاح الشريعة يقتضي بعثها كأصل يبنى عليه لا سحب الفقه البشري إلى زمان خارج زمانه.
وهذا الدور لا يقوم به سوى النوابغ من العلماء الأفذاذ، الذين تشربوا علوم الدين وأحاطوا بنصوصه حفظا وفقها، وأشبعوا من إرث الماضين بما يمكنهم من تمييز الأصلح للبقاء والأنسب للحفظ على ما كان له.
وإن غلق باب التجديد مكلف ككسره، ومتى جمد الناس على الماضي البشري الذي حقه التجاوز أصابهم العنت ولو أنهم أخذوا بما أمرهم الله به من الاجتهاد لأصابتهم الرحمة. فكما أن اتباع الشريعة المحدثة رحمة لا يسع النبي السابق التخلف عنها، فإن اتباع الفقه المحدث رحمة لا يسع العامة التخلف عنه (إذا جاء من أهله).
وكما أن الشريعة المحدثة تراعي وضع الآصار والأغلال التي تلحق الأمة نتيجة الغلو أو التشدد أو الجمود أو الفهوم المغلوطة، فإن الفقه المحدث والفكر المحدث ينبغي أن يراعي ذات المعاني، بأن يتجاوز غلو الغلاة وانتحال المبطلين وجمود المقلدة المتعصبين.
وإن عصرنا اليوم ليس بالعصر الهين، إذ تطورت فيه الحياة وتعقدت، وباتت الأمور متشابكة متراكبة، تكثر فيها الفتن وتلتبس فيها القضايا، حتى أنه لا تخلوا مصلحة من مفسدة ولا مفسدة من مصلحة (كما ذكر ابن تيمية عن زمانه وحكاه عن العصور المتأخرة)، وغلبت فيها أهواء الناس ومطامعهم، فإنزال هذه الحياة منازل الحياة البدائية وإنزال الناس اليوم منازل الرعيل الأول سذاجة مذمومة ومخاطرة قاتلة.
ومن رجا الله تعالى أن يستعمله في طاعته وأن يوظفه في خدمته فليسأل الله بابا من أبواب الاجتهاد والتجديد لأن نفعه أعظم وأعم وحاجة الأمة إليه أكبر وأشد، خصوصا من منحهم الله علما وتقى. فلعل الله أن يبعث لهذه الأمة مجددا صادقا يلهمها الإخلاص والصدق وحسن الاتباع وفقها تعز به ولا تذل، وترفع به ولا تنخفض، وتجتمع عليه ولا تتفرق.