مقالات

د. إبراهيم التركاوي يكتب: حضارة بلا روح ولا قلب

لا يَقوى كلُّ ذي حِسٍّ إنسانيٍّ، أو مَن عنده بقيّة من حياء وضمير، على مشاهدة ما يقوم به الكيان المحتل الصهيوني المجرم – في غزة – من مجازر وحشيَّة وإبادة شاملة، لم يسلم منها بشر ولا شجر ولا حجر، تحت سمع وبصر العالَم أجمع، وتحت رعاية أمريكا والدول الغربية، التي فتحت مخازن أسلحتها لتمده بأحدث الأسلحة؛ ليغرق بها فلسطين بالدماء والدمار.

وتعلو صيحات الإنسان الحر في كل مكان، متسائلة في حيرة ودهشة: أين الضمير العالمي، وأين العالم المتحضر، إزاء هذه الجرائم الدمويَّة البشعة التي ليس لها مثيل من قبل؟!!

لكن سرعان ما تذهب الحيرة وتزول الدهشة؛ إذا ما عُرفت بعض الأسس الفكريَّة الفلسفيَّة -لا العلميَّة- التي تقوم عليها الحضارة الغربية، من نزعة الاستعلاء على الآخرين؛ فكل مَن سواهم برابرة وهمج، ومن سيادة النزعة الفردية، والفلسفة النفعية الميكافيلية، التي أباحت لهم كل كذب وتضليل في سبيل مصلحتهم؛ فلا حرج بارتكاب أفظع الجرائم لإشباع مطامعهم ومآربهم، شعارهم في ذلك: (أنا وليخرب العالَم)!

وليس أدلَّ على ذلك من أنَّ تاريخهم الأسود في الحروب، يشهد عليهم بأنَّهم لا يرعوْن حرمة لأخلاق ولا قوانين، ولا يبالون بقصف وقتل الأبرياء الآمنين من المدنيِّين في بيوتهم وفي مخادعهم، بل يجعلون هدفهم الأول من حروبهم: تدمير البنية التحتيَّة، وتخريب مصادر الماء والطاقة، وكل مُقوِّمات الحياة، تحت حجج وذرائع عارية مفضوحة لا تخفى على أحد.

لقد امتدت هذه الحضارة على أنقاض الآخرين، إما بالإبادة أو السلب والنهب، فهي حضارةٌ بلا روح ولا قلب، موغلة في التوحش – وإنْ ادَّعت التحضُّر والرُّقيَّ والتقدّم وتشدَّقت بحقوق الإنسان والمرأة والطفل.. – الذي ظهرت بعض شواهده المدمرة في العراق وأفغانستان، وفي فضائح سجني (أبو غريب وغوانتانامو)!

ولقد صور الشاعر (فاروق جويدة) فضائح هذه الحضارة وما قامت به أمريكا من ترويع وقتل الشعب العراقي في انتصار زائف، وذلك في قصيدته (بغداد لا تتألَّمي) التي قال فيها:

عارٌ على زمنِ الحضارةِ أيُّ عار

هل صار ترويعُ الشعوبِ وسامَ عِزٍّ وافتخار

هل صار قتلُ الأبرياءِ شعارَ مَجدٍ وانتصار؟!!

ومن قبل ذلك وصف أمير الشعراء (أحمد شوقي) رحمه الله، فضائحَ الاستعمار الفرنسي في سوريا في قصيدته التي قال فيها:

وللمستعمرين – وإنْ ألانوا – **  قلوبٌ كالحجارةِ لا ترق!

فلا غرو أن نرى شواهد وآثار نزعة الإجرام والإبادة والقتل – المتأصلة في نفوس قتلة الأنبياء والرسل – التي لم يسلم منها المستضعفون من الشيوخ والنساء والأطفال الخدج، والمرضى والجرحى في المستشفيات، حتى الحالات الحرجة في العناية المركزة..، دون مراعاة للأعراف والأخلاق ولا القوانين ولا المواثيق الدوليَّة.

لقد طُبعت قلوب عصابات الصهيونية -ربيبة الاستعمار وصنيعته وامتداده- بشدة القسوة وضراوة الوحشية، فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوة، كما وصفهم الله تعالى وصفًا يصل حاضرهم بماضيهم، وذلك في قوله تعالى:

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].

وهذا ما لاحظه العلامة (محمد عبد الله دراز) في تفسير الآية السابقة: فقوله تعالى: {مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}. كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة ولم تحدد نهايته، كأنها بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار، وتركته يتخطى العصور والأجيال في خيال السامع، حتى يظنَّ أنَّ الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر، ثم لم يلبث هذا الظنُّ أن ازداد قوة بصيغة الجملة الاسمية في قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ}. دون أن يقول: (فكانت كالحجارة).

لقد كان انتهاء القرآن إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف توطئةً لتغيير الأسلوب فيهم؛ فإنَّ مَن يبلغ قلبُه هذا الحدَّ من القسوة التي لا لين فيها يصبح استمرارُ الخطاب معه نابيًا عن الحكمة، ويصبح جديرًا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممَن له قلب سليم!

د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث وكاتب في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى