الأحد مايو 19, 2024
مقالات

د. إبراهيم التركاوي يكتب: شر ما يُبتلى به الإنسان!

إنَّ شرَّ ما يُبتلى به الإنسان: أن يجمع بين الجهالة والعماية، الجهالة بسنن الله الغالبة، والعماية عن التاريخ وما حفل به من نهايات سعيدة مشرقة لأصحاب الحق والمصلحين، ومن عواقب شقيّة مُظلمة لأصحاب الباطل والمفسدين.

فمن سنن الله عزَّ وجلَّ: أنَّ سنن الحق تحصد الباطل مهما علا زبده وانتفش، ولا يبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس، كما جاء في قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17].

إنَّ (الأنفع للناس) هو الذي سيبقى في الأرض، وستذهب ضلالات العصر كما ذهبت مِن قبلها آلاف وآلاف من الضلالات؛ إنها سنّة الله وقانون التاريخ، وهذا القانون هو المرجع الفاصل القاطع الذي لا يرحم مَنْ تخلف عنه؛ بل إنه سينسخه ويحوله إلى جُفاء!

فالعاقل مَن أبصر سنن الحق واقتدى بسِيَر المصلحين، وأخضع هواه للحق والدين، ووقف مواقف الصدق، وخلَّف وراءه جليل الأعمال الصالحة النافعة؛ فيشهد له التاريخ ويكون من بعد ذلك ذكرى طيبة خالدة في الآخرين، مقتديًا بأبيه الخليل إبراهيم الذي دعا ربه بهذا الدعاء: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:83-84].

 وما أصدق ما قاله أمير الشعراء:

دقات قلب المرء قائلة له ** إنَّ الحياة دقائق وثوان

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ** فالذكر للإنسان عمر ثان

فطوبى للذين ماتوا وما ماتت مآثرهم؛ التي ما زالت تُدر عليهم من الأجر والرحمات ما دامت السماوات والأرض إلى ما شاء ربك!

والأحمق مَن جهل سنن الحق وسار في ركب العابثين المفسدين، واتخذ إلهه هواه، وخلَّف وراءه إرثًا من الأوزار والآثام؛ فيشهد عليه التاريخ وتكون نهايته كنهاية مَن سبق من العابثين المفسدين، ويصبح عبرة الزمان إلى يوم الدين.

فما أنكد حظ أولئك الذين واراهم التراب، ولم تزل أعمالهم الآثمة، وأفكارهم الضالة تسري وتعمل عملها في إفساد العقول والقلوب.. فبئس مَثل القوم الذين ماتوا وما ماتت ذنوبهم، التي ما زالت تُجري عليهم من الآثام والأوزار ما دامت السماوات والأرض إلى ما شاء ربك!

وفي الحديث عن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله ﷺ:

«مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْ» [رواه مسلم:1017].

ولذا كان الصالحون يقولون: طوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه، وويل لمن يموت وذنوبه باقية من بعده!!

ومما يُؤسَف له: أنَّ كثيرًا من الناس زيَّن لهم الشيطان أعمالهم، واتبعوا أهواءهم؛ فأصبحوا في جهالة بسنن الحق، وفي عماية عن دور التاريخ وما يسجله للرجال من مواقف.. فلا هم فطنوا لسنن الحق التي يقذف الله بها على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق؛ فجردوا عقولهم من الهوى، وحرروا نفوسهم من الباطل، ولا هم أبصروا أنَّ مواقفهم اليوم تُسجل وتصبح غدًا تاريخًا يشهد عليهم!

وما أعظم التاريخ حين لا ينسى للرجال مواقفهم، ولا للشرفاء منازلهم، ويجعل ذكراهم – دائمًا وأبدًا – ملء الأرض وملء السماء..، انظر كيف احتفى التاريخ ببلال وخلَّد ذكراه، وهو حبشيّ، ورمى بأبي جهل في سلة المهملات وهو قرشيّ، بل رمى بأبي لهب في النار وهو عمّ النبيِّ ﷺ.

ولأمر ما يُكرر الإنسان في صلواته اليومية قوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7].

إنها تجديد للعهد؛ ليكون الإنسان مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا يكون مع المغضوب عليهم من الضالين المضلين، ولا مع العابثين المفسدين!

إنَّها سنن الله الثابتة، التي تُعلي راية الحق، وتكسر شوكة الباطل!

إنَّ صيحة الحق تدوّي – صباح مساء – في جنبات الكون كله بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:48-49].

Please follow and like us:
د. إبراهيم التركاوي
كاتب وباحث وكاتب في الفكر الإسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب