مقالات

د. إبراهيم التركاوي يكتب: غياب الوعي عن هموم الأمة وقضاياها الأساسية

إنَّ غياب الوعي عن فقه الواقع، وفراغ النفس من هموم الأمة وقضاياها، يجعل المرء يهتم بالصغائر، ويتجاهل العظائم، كهذا الرجل الذي جاء إلى ابن عمر، فسأله عن الصلاة في قميصٍ به دم البعوض! فقال له: مِمَن أنت؟ قال: من أهل العراق. قال: ها، انظروا إلى هذا يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله ﷺ! وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «هما ريحانتي من الدنيا». [أحمد:8/168].

إنَّ تاريخنا – للأسف – حافل بصرف الطاقات وهدر الإمكانات في المعارك الخطأ، ومما يثير الحزن والأسى أنَّ الأمة الإسلامية ما زالت تُستدرج من آنٍ لآخر إلى معارك وهمية، تُلهى بها، وتُستَنفد طاقتها.

والمهموم بواقع الأمة اليوم، يرى بوضوح -وهو متحسر- الطاقات والإمكانات والأوقات التي تُهدر بالمناقشات والمجادلات والصراعات؛ في قضايا مفتعلة، ومسائل جزئية خلافية، بحيث لا يبقى منها شيء حين يجِدَّ الجِدُّ، وتُستدعى العزائم، وتُستنهض الهمم…!

والأدهى من ذلك أن تخرج الأمة عن البناء، وتظل في دوامة المشاكل المفتعلة، والمعارك الخطأ، ولا تعرف مصادرها أو مراميها؛ لأنها لم تدرك ما يُراد بها، ولم تفهم ألاعيب الاستعمار وسماسرته في تدويخ الشعوب، وإلهائها عن قضاياها المصيرية…!

الاستعمار يتبع في ذلك -كما أشار مالك بن نبي- الطريقة التي تُطبَّق في بعض الألعاب الإسبانية: إنهم يلوّحون بقطعة قماش أحمر أمام ثور هائج في حلبة الصراع، فيزداد هيجانُه بذلك، فبدلًا من أن يهجم على المصارع يستمر في الهجوم على المنديل الأحمر الذي يلوّح به؛ حتى تُنهك قواه…!

فالاستعمار وسماسرته يُلوِّحون في مناسبات معينة، بقضايا وهمية مفتتعلة، تَستفز الشعوب المستعمَرة، وتُثير غضبها، وتُغرقها في حالةٍ شبيهةٍ بالحالة التنويمية؛ حتى تصبح عاجزة عن إدراك موقعها، فتوجِّه ضرباتها وإمكاناتها توجيهًا أعمى، وتُسرف من قواها دون أن تصيب بضربة صادقة المصارعَ الذي يُلوِّح بالمنديل الأحمر…!!

وفي ظل هذه الأجواء، التي تُنهك فيها قوى الأمة في معارك وهمية – تستغرقها وتلهيها إلى الحد الذي لا يُسمح لها بأن تشتبك مع عدو حقيقي- تغيب الرؤية الواضحة المستنيرة، عن حلول سليمة لمشكلاتها المصيرية، ولم تستطع أن تتمثل المعاني المفقودة والقضايا الأساسية، ولا أن تتفرغ لبناء شيء له قيمة يفيد الحاضر، أو يؤمِّن المستقبل!

وهذا ما جعل أحد المفكرين الكبار- رحمه الله- يستصرخ العرب والمسلمين في قوله: (إلى متى أيها العرب تصرفون قواكم الجبارة التي فتحتم بها العالم القديم في ميادين ضيقة محدودة؟! وإلى متى ينحصر هذا السيل العَرِم الذي جرف بالأمس المدنيات والحكومات، في حدود هذا الوادي الضيق، تصطرع أمواجه ويلتهم بعضها بعضًا؟)!!

د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث وكاتب في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى