د. إبراهيم التركاوي يكتب: ليس غير الله يبقى.. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
ما أعظمَ اعتبار الإنسان عندما يستقبل نهاره، ويستدبر ليله بوعي وتأمل في تصاريف القدر بأحوال البشر! فما مِن يومٍ ينشق فجره على الناس إلا وفيهم مَن سيموت، وفيهم مَن سيحيا، وفيهم مَن سيغتني، وفيهم مَن سيفتقر، وفيهم مَن يصحّ، وفيهم مَن سيمرض..، فسبحان مَن هو {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويكشف غمًا، وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفك عانيًا، ويُغني فقيرًا، ويُعزُّ ذليلًا، ويُذلُّ عزيزًا، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين!
قالت هند بنت الملك النعمان: لقد رأيتنا ونحن من أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس. وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجو ما لنا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا ويرحمنا مما نحن فيه!!
قال إسحاق بن طلحة: دخلت عليها يومًا، فقلت لها: كيف ترين الأمر بكم؟ فأنشدت قائلة:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرُنا ** إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصفُ
فأُفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمها ** تقلب تارات بنا وتصرفُ!
فلا غرو إذا استقبل الإنسان صبيحة يومه بهذا الذِّكر النديّ: «أصبحنا وأصبح المُلك لله، والحمد لله لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» [مسلم:4/2088]، وهو ينظر في الكون ويـتأمل في أحوال الأفراد والأمم، وفي طلاقة القدرة لمالك الملك الحقيقي الذي لا شريك له ينازعه، ولا وارث يرثه، ولا قوة تهدده، وتؤرِّق صاحبه!!
عندئذٍ لا يسع الإنسان المؤمن – وهو يُقبل على الحياة بكل أمل وقوة – إلا أن يحمد الله المَلِكَ الحقيقي المُتصرِّفُ في الممالِك كلها وحده، تَصرُّفَ مَلِك قادر – لا يمتنع عليه شيء، وهو قاهر لكل شيء، وقد خضع له كل شيء – عادل رحيم سبحانه وتعالى! {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116].
وإذا كانت هذه هي الحقيقة التي يُمسي ويُصبح الوجود كله عليها، فينبغي للإنسان ألَّا يتوجه إلا إلى الله، وألَّا يتوكل إلا عليه في أموره كلها؛ فهو الحيُّ الذي لا يموت، الدائم الباقي السرمديّ الأبديّ، ربُّ كلِّ شيء ومليكه – سبحانه وتعالى – لا يشغله شأن عن شأن؛ فلا يُتوكَل إلا عليه، ولا يُفزَع إلا إليه!
ولله دَرُّ مَن قال:
اجعل لربك كلَّ عِزِّك يستقر ويثبتُ ** فإذا اعتززت بمن يموت فإنَّ عِزَّك ميتُ!
د. إبراهيم التركاوي
9 ديسمبر 2024م