مقالات

د. إبراهيم التركاوي يكتب: ليس غير الله يبقى (6]

 ليس غير الله يبقى، ولا يبقى عنده -سبحانه!- من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغِي به وجهه، فالله – عزَّ وجلَّ – أغنى الشركاء عن الشرك، وله وحده الخَلْق والأمر، قد أوجب على عباده أن يعبدوه وحده مخلصين له الدين، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء».

وحسبُنا في ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة، عن المرائين الذين هم أوَّلُ مَن تُسعَّر بهم النار يوم القيامة، وهم ثلاثة: مجاهد قُتل ليُقال عنه: شجاع جريء! وعالِمٌ تعلَّم وعلَّم ليُقال: عالم! وغَنِيٌّ تصدَّق وأنفق ليُقال: جواد متصدّق! هؤلاء الثلاثة أحبط الرياء أعمالهم، وساقهم إلى نار جهنم والعياذ بالله.

إنَّ إخلاص العمل لله وحده يحمل الإنسان على نسيان رؤية الخَلْق بدوام النظر إلى الخالِق، وهذا ما يجعل الإنسانَ في يقظة من أمره؛ تحمله على مراقبة نفسه في كل قول وعمل، بل في كل حركة تصدر عنه، فإنْ كانت لله أمضاها، وإنْ كانت لغيره توقف، مستلهمًا دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اللهم اجعل عملي كله خالصًا، واجعله صوابًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا».

لقد شدَّد الإسلام على أهمية الإخلاص، وتجريد النية لله تعالى؛ لأن الإخلاص لله سياج العزّ وضمان الخير في الحياتين..، فإنَّ الأمة لا ترقى إلا بصدق أبنائها المخلصين الذين جعلوا الله غايتهم فيما يفعلون ويتركون، كما أنَّ الأمة لا تهبط إلا إذا ابتليت بأناس لا يرجون اللهَ والدارَ الآخرة، ويذهلون عن وجه ربهم من أجل شهواتهم الدنيئة، وأغراضهم الخسيسة، ولا يبالون – في سبيل ذلك – أن يفسدوا على الناس دينهم ودنياهم!

يَحكِي أحد المرافقين لعبد الله بن المبارك: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله الرومي، ثم آخر فقتله، حتي قتل ستة من المسلمين، فتأخَّر عنه المسلمون، فصال وجال بين الصفين ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فطارده ساعة ثم طعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فكنت فيمن ازدحم إليه، فإذا هو يُلثِّم وجهه بِكُمِّه حتى لا يعرفه الناس، فأخذت بطرف كُمِّه فمددته وأزحته عن وجهه، فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممَن يُشنِّع علينا.

وكان رضي الله عنه يحضر القتال ويبلي بلاء حسنًا، فإذا كان وقت القسمة غاب، فقيل له في ذلك، فقال: يعرفني الذي أقاتل له.

إن الأمة لا تُرزَق ولا تُنصَر إلا بأمثال هؤلاء الذين يَقلّون عند الطمع، ويَكثُرون عند الفزع، ويكتفون بنظر الله إليهم، ويستغنون عن أنظار الناس، إنهم من الأمة كالأساس من البناء؛ لولاه ما ارتفع سقف، ولا قام بيت، ولا شُيِّد صرح. ولله درُّ شوقي حين قال:

خَفِي الأساسُ عن العيون تواضعًا.. مِن بعد ما رَفعَ البناءَ مشيدًا!

د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights