مقالات

د. إبراهيم التركاوي يكتب: ليس غير الله يبقى (7)

 ليس غير الله يبقى، ولا يبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس، كما جاء في قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17].

إنَّ (الأنفع للناس هو الذي سيبقي في الأرض)، وستذهب ضلالات العصر كما ذهبت مِن قبلها آلاف وآلاف من الضلالات، إنها سنّة الله وقانون التاريخ، وهذا القانون هو المرجع الفاصل القاطع الذي لا يرحم مَنْ تخلَّف عنه؛ بل إنه سينسخه ويحوله إلى جُفاء…!

فالعاقل مَن أبصر سنن الحق واقتدى بسِيَر المصلحين، وأخضع هواه للحق والدين، ووقف مواقف الصدق، وخلَّف وراءه جليلَ الأعمال الصالحة النافعة؛ فيشهد له التاريخ ويكون مِن بعد ذلك ذكرى طيبة خالدة في الآخرين، مقتديًا بأبيه الخليل إبراهيم الذي دعا ربه بهذا الدعاء: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ*وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:83-84].

وما أصدق ما قاله أمير الشعراء:

دقات قلب المرء قائلة له ** إنَّ الحياة دقائق وثوان

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ** فالذكر للإنسان عُمر ثان!

فطوبى للذين ماتوا وما ماتت مآثرهم؛ التي ما زالت تُدر عليهم من الأجر والرحمات ما دامت السموات والأرض إلى ما شاء ربك!

والأحمق مَن جهل سنن الحق وسار في ركب العابثين، واتخذ إلهه هواه، وخلَّف وراءه إرثًا من الأوزار والآثام؛ فيشهد عليه التاريخ وتكون نهايته كنهاية مَن سبق مِن العابثين الضالين، ويصبح عبرة الزمان إلى يوم الدين..، فما أنكد حظ أولئك الذين واراهم التراب، ولم تزل أعمالهم الآثمة، وأفكارهم الضالة تسري وتعمل عملها في إفساد العقول والقلوب..

فبئس مَثل القوم الذين ماتوا وما ماتت ذنوبهم، التي ما زالت تُجري عليهم من الآثام والأوزار ما دامت السموات والأرض إلي ما شاء ربك!

وفي الحديث: عن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة، فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده، مِن غير أن يَنْقُصَ من أجورهم شيء، ومَن سنَّ في الإسلام سُنَّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها مِن بعده، مِن غير أن يَنْقُصَ من أوزارهم شيء» [رواه مسلم:1017].

ولذا كان الصالحون يقولون: طوبي لمن مات وماتت معه ذنوبه، وويل لمن يموت وذنوبه باقية من بعده!!

وهذا ما سجّله القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يسن:12].

وذاك سر ما يلتمسه المسلم من ربه في صلواته اليومية، من أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه: {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7].

د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights