الأثنين مايو 20, 2024
مقالات

د. إسماعيل علي يكتب: هل كانت الصلاة جهة بيت المقدس مجاملةً لليهود؟

أعداء الإسلام لا يدخرون جهدًا في إثارة الافتراءات والشبهات حول الإسلام العظيم، ولم يتركوا شيئًا له صلة بالدين الحنيف إلا واستهدفوه بالطعن والتشويه، في إطار ما يُعرَف بالحرب الثقافية، أو حرب الكلمة.

ومن منطلق اعتقاد المستشرقين والمنصّرين أن الإسلام ليس من عند الله، فقد بلغ الشطط والافتراء بهم وبمَن لفّ لفّهم أنْ ذهبوا إلى أنّ الرسول محمدًا قد أتى ببعض العبادات والشعائر الدينية لأجل استرضاء اليهود، ومجاملتهم، وأن المسلمين قد أظهروا استعدادًا كاملًا لاتّباع عدد من الطقوس اليهودية ـ زعموا ـ.

ويزعمون أن الرسول حين ترك مكة، كان يحدوه الأمل في أن يقبله يهود يثرب، وأنه عمل لدى وصوله إلى المدنية على استمالة قلوبهم، فشاركهم في صوم عاشوراء، واتجه في الصلاة إلى بيت المقدس، ولكن اليهود خيبوا ظنه برفضهم الاعتراف به، فما كان منه إلا أن قطع علاقته بهم وحاربهم.

وحين ننظر فيما استندوا إليه لتأييد ادعائهم أن الصلاة إلى بيت المقدس كانت بدافع كسب قلوب اليهود، والرغبة في مجاملتهم؛ لا نجد لهم مستندًا غيرَ الأوهام والافتراضات والتخيلات، بل الأكاذيبَ التي يظلون يكررونها ويلحون عليها، وكأنها حقائق لا يرقى إليها شك!!

والواقع أن الأدلة الكثيرة تنقض مثل هذه المزاعمِ وتدحضها.

إنّ صلاة النبي نحو المسجد الأقصى أول الأمر، ثم تحوّلَه بعد ذلك إلى البيت الحرام؛ إنما كان بوحي من الله تعالى، ولم يكن استرضاءً ليهود ـ كما يدعي أولئك المستشرقون وتابِعوهم، بل إن النبي كان طيلة توجّهِه نحو بين المقدس، يتطلع ويتشوق إلى الصلاة جهةَ الكعبة المشرفة.

وهذا أمر سجله القرآن الكريم، ولكن يبدو أنْ قد تعامَت عنه أنظار المستشرقين وتلامذتِهم، أو عميت عن تدبره بصائرهم!!

قال الله تعالى:

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}

[البقرة: 144].

عَنِ ابْنِ عباس قال: كان أوّلَ ما نُسخَ من القرآن الكريم القبلةُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَسول لمّا هاجرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْيَهُودُ، فَأَمَرَهُ اللهُ تعالى أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ الله بضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ يَدْعُو إِلَى الله وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللهُ:

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}

[البقرة: 142]

(تفسير القرآن العظيم، الحافظ ابن كثير).

وعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَـ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ ـ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ ـ وَهُمْ الْيَهُودُ ـ:

{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

[البقرة: 142]»

(أخرجه البخاري).

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَمَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ» (أخرجه أحمد).

وهكذا نرى الأدلة والشواهد قائمةً على أنّ الرسول اتجه إلى بيت المقدس بوحي من الله، ثم صُرِف إلى الكعبة بوحي من ربه كذلك، مع أنه في كل الأحوال كان يتطلع إلى الصلاة جهة الكعبة، لكنه كان يمتثل لأمر ربه.

ثم إنّ هناك أمرًا مهمًّا ثابتًا، ينسف تلك الشبهة من الجذور؛ وهو أن الرسول والمسلمين كانوا يصلون جهة بيت المقدس وهم في مكة، ومعلوم أنه لم هناك أيُّ وجود لليهود بها، ولا نصارى كذلك، وكانت الصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة استمرارًا لما كانوا عليه في مكة، ولم يكن أمرً استُحدث في المدينة المنورة.

وعلى هذا تبطل شبهة استمالة اليهود ومجاملتهم بالصلاة إلى بيت المقدس.

والحمد لله رب العالمين.

Please follow and like us:
د. إسماعيل علي
أستاذ الدعوة الإسلامية والأديان جامعة الأزهر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب