الأمة: أصدر د. بكر إسماعيل الكوسوفي سفير كوسوفا السابق في القاهرة ومساعد وزير الخارجية بكوسوفا نعيا للمرحوم د.صابر عبد الدايم يونس عميد كلية اللغة العربية بجامعة الازهر قال فيه :
غيّبه الموتُ ولكنْ لا يُغيّبه العطاء.. تأبينًا للأستاذ الدكتور صابر عبد الدايم يونس
بسم الله الرحمن الرحيم
” يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”
بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، يملؤها الحزن والأسى لفقدان أحد عمالقة الفكر والأدب.
وننحني إجلالاً لوداع عَلَمٍ من أعلام الأمة، وقامة شامخة من صروح الثقافة الإسلامية والعربية، الأستاذ الدكتور صابر عبد الدايم يونس (1948-2025م)، الذي وافته المنية يوم الأحد 18 أغسطس 2025م.
لقد كان رحيله خسارة جسيمة للحياة الفكرية والعربية بكل أبعادها: العلمية، والشعرية، والثقافية، والفكرية.
فقد عاش الفقيد الراحل حياةً كانت نموذجًا فريدًا لـ”التكامل المعرفي”، حيث جمع بين عمق الأكاديمي الباحث، وروحانية الشاعر الملهَم، وإدراك الناقد المنظّر، وحماس الداعية الملتزم.
لم يكن هذا الجمع مجرد تراكم، بل كان اندماجًا نوعيًا صنع منه شخصية استثنائية، جعلت من سيرته الذاتية مشروعًا لإحياء نموذج “الأديب العالم” في عصر التخصص الضيق.
أولاً: الأثر العلمي والأكاديمي: صياغة المنهج وبناء الأجيال:
لا يمكن فصل إسهامات الدكتور صابر المتعددة عن جذوره الأكاديمية المتينة. كأستاذ جامعي أزهري، وأشرف على مئات الرسائل العلمية بين مصر والسعودية.
كان حقًا مهندسًا لأجيال من الباحثين. لم يقتصر دوره على نقل المعرفة، بل تمثل في غرس منهجية التفكير والنقد.
قدم الرجل مشروعه النقدي عبر مؤلفات أصبحت مراجع أساسية في مجالها، مثل “موسيقى الشعر العربي بين الثبات والتطوُّر” و”التجربة الإبداعية في ضوء النقد الحديث” و”الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق”.
في هذه المؤلفات، رفض الدكتور صابر الجمود النقدي المتعصب، مؤمنًا برؤية تكاملية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين العمق التراثي ومتطلبات العصر، وبين المنهج التاريخي والمنهج الجمالي كان ناقدًا “تأسيسيًا” يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرق.
ثانيًا: الأثر الفكري والثقافي: تشكيل مفهوم “الأدب الإسلامي”.:
إذا كان هناك إسهام واحد يخلد اسم الدكتور صابر عبد الدايم يونس، فهو دوره المحوري في بلورة وتأسيس مفهوم “الأدب الإسلامي” نظريًا وتطبيقيًا.
لم يكن هذا المفهوم مجرد شعار طوباوي أو حكرًا على موضوعات دينية ضيقة، بل كان رؤية فكرية شاملة للفن والأدب تنبثق من رؤية عالمية إسلامية.
في كتابه المؤسس “الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق”، قدم رحمه الله رؤية تجعل من الإسلام مصدرًا للإلهام الجمالي والأخلاقي معًا، وليس مجرد أداة للتلقين المباشر.دافع عن استقلالية الأدب كفن، ولكن ضمن إطار من الضوابط والقيم التي تحفظ له إنسانيته وتوجهه الحضاري.
كونه نائب رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية ورئيس مكتبها في القاهرة لم يكن منصبًا إداريًا فحسب، بل كان موقعًا لقيادة تيار فكري وأدبي حيوي، يجذب كبار الأدباء والمفكرين من مختلف المشارب.
منزله في الزقازيق، الذي حوله إلى “صالون أدبي” شهري لأكثر من ثلاثة عقود، كان نموذجًا عمليًا للبيئة الثقافية الحية التي آمن بها.
حيث الحوار الهادئ، والتبادل الفكري، ورعاية المواهب الشابة. كان بيته منارة ثقافية في محافظة الشرقية، تذكرنا بصالونات القاهرة وبيروت في ذروة عطائها.
ثالثًا: الأثر الشعري: الصوت النبوي المطمئن :
كان الدكتور صابر شاعرًا موهوبًا، تميزت تجربته الشعرية بالندرة والتميز. شعره لم يكن ترفًا ذاتيًا أو استعراضًا لغويًا،
بل كان تعبيرًا صادقًا عن رؤيته الفكرية والوجدانية. في دواوينه مثل “العاشق والنهر” و”مدائن الفجر” و”العمر والريح”، نجد صوتًا مطمئنًا، متوازنًا، ينضح حكمة وإيمانًا.
نجح في تقديم نموذج للشعر الهادف الذي لا يخلو من الجمالية، والشعر الجمالي الذي لا يفتقر إلى العمق والرسالة.
كان شعره يجذب القارئ إلى الحياة الطيبة، والقيم النبيلة، والتأمل في ملكوت الله، دون أن يقع في المباشرة أو الوعظ الجاف. كان شاعر “الوسطية” بمعناها الإيجابي: الجمع بين متعة الشكل وجوهر المضمون.
رابعًا: الأثر السياسي ” بالمعنى الحضاري”: الدفاع عن الهوية في مواجهة العولمة :
في ساحة طغت عليها خطابات التغريب والتبعية الثقافية، وقف الدكتور صابر عبد الدايم يونس حارسًا أمينًا للهوية الإسلامية والعربية.
لم يكن موقفه انكفاءً على الذات أو عداءً للآخر، بل كان تأكيدًا على الحق في الاختلاف والحفاظ على الخصوصية الحضارية.
كانت عضويته في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومشاركاته الإذاعية والتلفازية العديدة، أدوات استخدمها لتعزيز الثقة الثقافية في الأمة، ولجذب الانتباه إلى مخاطر الغزو الفكري الذي يتم تمريره عبر قنوات الأدب والفن.
كان يرى أن المعركة الحقيقية هي معركة الثقافة والهوية، وأن دور المثقف المسلم هو تحصين الأجيال وتزويدها بالأدوات الفكرية التي تمكنها من الانفتاح على العالم دون ذوبان.
خاتمة: رحيل الجسد.. وبقاء الأثر
رحيل الدكتور صابر عبد الدايم يونس هو خسارة فادحة، يشعر بها كل من عرفه عن قرب أو عن بعد عبر كتبه وكلماته.
لكن العظماء لا يرحلون حقًا؛ فهم يتركون وراءهم إرثًا خالدًا، وتلاميذ يحملون المشعل، ومكتبة فكرية وأدبية تظل منهلًا للأجيال.
كان رحمه الله مثالًا للأستاذ الجامعي الذي لم يحبس نفسه في برج عاجي أكاديمي، بل نزل إلى ساحة المجتمع لينشر علمه وأدبه وفكره.
المرحوم كان جسرًا بين الأزهر والمجتمع، بين التراث والمعاصرة، بين الفكرة والفن.
إنا لله وإنا إليه راجعون. نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته ورضوانه، ويسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وأن يجعل ما قدمه من علم نافع وأدب خالد في ميزان حسناته، ويمد في عمر إرثه الذي يظل نبراسًا يهدي من يتبعون دربه.
نسأل الله أن يلهم أهله وذويه ومحبيه وطلابه والأمة العربية والإسلامية الصبر والسلوان.